01 نوفمبر 2024
عن حقيقة الجنوب التونسي النهضاوي
وصف سياسي للجنوب التونسي، أطلقه رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، لا شك أنه بوعي منه، عند زيارته ولاية مدنين ومدينة بنقردان المتاخمة للحدود التونسية الليبية، يوم الأحد 17 مارس/ آذار الجاري، حيث أشرف على اجتماع قُدّر حضوره بألف وخمسمائة شخص من أنصاره الذين تقاطروا من ولايات الوسط والجنوب، ترميماً لحال انتخابي قادم، قال فيه إن "حركة النهضة ليست في حاجةٍ إلى حملة انتخابية في الجنوب، فهذه المنطقة ظلت باستمرار نهضاوية، منذ انتخابات عام 1989، ولها ميل واضح نحو الاتجاه الإسلامي والنهضة". يعلم الغنوشي علم اليقين أن الجنوب التونسي لم يكن، من الناحية التاريخية، نهضاوياً، ولم يعرف أثراً للإسلام السياسي وتنظيماته وجماعاته، وإنما كان وطنياً مقاوماً للاستعمار، ما بين 1881 و1956، في إطار ما تعرف بثورة الودارنة سنة 1915، ثم ضمن خلايا الحركة الوطنية بقيادة الحزب الحر الدستوري، بشقيه القديم الثعالبي والجديد البورقيبي، والمقاومة المسلحة التي انطلقت سنة 1952 بزعامة الطاهر لسود، قبل أن تنتشر في صفوف أبنائه الحركة العروبية المسلحة اليوسفية، نسبة إلى صالح بن يوسف، الزعيم الوطني وأصيل جزيرة جربة، الذي تم اغتياله يوم 11 أغسطس/ آب 1961 في فرانكفورت. هذه الهوية الوطنية للجنوب التونسي، المقاوم للاستعمار الفرنسي، مدونة في مؤلفات مناضلين وباحثين كثيرين، من أبرزهم إبراهيم طوبال، والطاهر عبدالله، وضو بالسعود، والضاوي موسى، ومحمد ضيف الله، وعميرة علية الصغير، وغيرهم. وفي ظل حكمي بورقيبة وبن علي، تشكلت فسيفسائية سياسية في الجنوب التونسي من العائلات السياسية والأيديولوجية الكبرى، العروبية واليسارية والإسلامية، والدستورية التي هيمنت على الدولة والحكم أكثر من نصف قرن، ما جعل بقية المكونات تلجأ إلى النشاط العلني، ضمن أحزابٍ سياسيةٍ، حصلت على تأشيرة العمل القانوني، على الرغم من محدوديتها، ولكن أغلب التنظيمات السياسية، سيما القومية منها واليسارية، اختارت النشاط السرّي، ووجدت في الاتحاد العام التونسي للشغل الإطار الأفضل للحفاظ على وجودها،
وأعطت زخماً وحيوية للنشاط النقابي الذي توطّن، واشتدّ عوده في الجنوب التونسي، منذ الفترة الاستعمارية، وخصوصاً بعد ظهور الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة فرحات حشاد سنة 1946.
بعد سقوط نظام بن علي سنة 2011، استفادت حركة النهضة الإسلامية أيما استفادة من لحظة 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني 2011)، فقد سوّقت نفسها ضحيةً لنظام الاستبداد والقمع الذي عرفته تونس، ومؤتمناً على حماية الإسلام وتطبيق تعاليمه وشرائعه، وفي الآن نفسه، استثمرت بدقّة وبشدّة إرث النضال السياسي الذي خاضته كل من الحركة اليوسفية، التي تعرّضت للتصفية والاجتثاث ومختلف أصناف العذابات، والتيارات القومية العربية المنبثقة عنها، والمجموعات اليسارية التي نشأت في ستينيات القرن الماضي، وكل الحراك الحقوقي والنقابي والاجتماعي والطلابي والمدني والاحتجاجي، الذي أفرز عدة انتفاضات متتالية، عالجتها السلطة الدستورية، بواسطة قمع الحريات والمحاكمات، وزج النشطاء في السجون والمعتقلات. وقد تمكّن الإسلاميون من الفوز بأغلبيةٍ ساحقةٍ في أول انتخابات ديمقراطية عرفتها تونس سنة 2011، وأفرزت المجلس الوطني التأسيسي الذي وضع دستور 2014، وانبثقت عنه حكومتا الترويكا، بقيادة كل من حمادي الجبالي وعلي العريض. ثم استمرّ ذلك الفوز، وإنْ في المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية سنة 2014 والانتخابات البلدية سنة 2018، إلا أن اللافت كان خسارة حركة النهضة مليون صوت من ناخبيها وأنصارها ومريديها الذين كانوا يعدون مليونا وخمسمائة ألف ناخب سنة 2011.
لم يعِ الغنوشي الذي انتصب خطيباً في بنقردان، في ذكرى هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تنظيم الإسلام السياسي الأكثر راديكالية ودموية، وفي الذكرى الثالثة والستين لاستقلال تونس، لم يعِ فعل الأيام والسنوات التي مرت متسارعة منذ سنة 2011، لحظة سقوط بن علي، لمّا عادت الحركة الإسلامية من المهجر إلى تونس، وهي تحمل معها رأسمالها الرمزي المتأتي من السنوات العجاف التي مرّت بها، ووضع الضحية الذي صاحبها، ولم يتّعظ من مسار حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقاً) الذي استثمر بدوره فكرة التحرّر الوطني، وتجربة الحركة الوطنية التي قادها واستعملها في الحكم، لتنتهي إلى التآكل وفقدان السلطة من بوابة الانتفاضة والرفض الشعبي.
مرت ثماني سنوات على وصول الإسلام السياسي التونسي إلى هرم السلطة، باتت فيها حركة النهضة حزب الحكم بامتياز، كما يحلو لقياداتها تعريف حزبهم، ولم تغادره البتة، مستندة إلى شرعيةٍ منحها لها المجلس الوطني التأسيسي ومجلس نواب الشعب. وبالتوازي مع ذلك، أصبحت الحركة الإسلامية قابلةً لتقييم تجربتها، واختبار شعبيتها، بما في ذلك الجنوب التونسي الذي تباهى به الإسلاميون خزّاناً انتخابياً لحكمهم المتواصل، إلا أن تجربة حركة النهضة التي تداولت على مختلف الوزارات، في الحكومات المتعاقبة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، لا سيما التي لها علاقة وثيقة بالتنمية والتشغيل، مثل وزارات التنمية والاستثمار الدولي والتكوين والتشغيل والصحة والنقل والتجهيز والداخلية والجماعات المحلية والبيئة وحتى المالية والتخطيط، وكانت دائماً الجزء الرئيسي في الحكومة، موفّرة لها الغطاء البرلماني والحزام السياسي، انتهت إلى حصيلةٍ هزيلةٍ، وانهيار شامل اقتصادياً ومالياً، حتى أن راشد الغنوشي، وهو يخطب في أنصاره الجنوبيين، لم يقدم منجزاً واحداً، أو مؤشراً إيجابياً يمكنه التباهي به، يُسجّل لحكومات الترويكا ونظيراتها الندائية (نسبة لحزب نداء تونس) والشاهدية (نسبة ليوسف الشاهد) التي كان الحزب الإسلامي مكوناً رئيسياً فيها.
وقوبل وصف الغنوشي الجنوب التونسي بأنه مضمون لفائدة حركة النهضة بالاستهجان
والرفض والتندر من مختلف القوى السياسية والأيديولوجية، على اختلاف ألوانها وأفكارها وتجاربها، الذي ذكّرها بوصفٍ مشابه للرجل، أثار غضباً شديداً لدى الطبقة السياسية التونسية، نعت فيه الجيش والأمن التونسيين بأنهما غير مضمونين. ولا يبدو موقف الغنوشي بريئاً، فهو يستبطن روحاً إقصائية، على الرغم من صفة الإسلامي الديمقراطي التي يطلقها على نفسه وعلى حزبه، ويتباهى بها في علاقاته الأوروبية والأميركية، ويروجها لدى لوبيات نفوذ ومراكز قوة، لا تعترف بالآخر المختلف والمنافس سياسياً لتيار الإسلام السياسي، الذي لا يخلو منه الجنوب التونسي، بل ويتمتع بحضور كبير في صفوف النخب الفكرية والنقابية والمدنية المحلية، وإن كان تمثيله السياسي أقل عدداً. إنه اللاشعور السياسي للزعيم الإسلامي السني الذي يتقمص النظرية السياسية الشيعية التي ترتكز على فكرة المرشد الأعلى، فالرجل يسلك دور المسؤول الأول في البلاد، من دون صفة أو وظيفة رسمية في الدولة، ويسمح لنفسه بصنوفٍ من الكلام والمواقف قد تؤثر في فكرة الوحدة الوطنية والضمير الجمعي القائم على المشتركات ومسلمات التاريخ والجغرافيا وثوابتهما، وتساعد على تقسيم أبناء البلد الواحد.
لم يعِ الغنوشي الذي انتصب خطيباً في بنقردان، في ذكرى هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تنظيم الإسلام السياسي الأكثر راديكالية ودموية، وفي الذكرى الثالثة والستين لاستقلال تونس، لم يعِ فعل الأيام والسنوات التي مرت متسارعة منذ سنة 2011، لحظة سقوط بن علي، لمّا عادت الحركة الإسلامية من المهجر إلى تونس، وهي تحمل معها رأسمالها الرمزي المتأتي من السنوات العجاف التي مرّت بها، ووضع الضحية الذي صاحبها، ولم يتّعظ من مسار حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقاً) الذي استثمر بدوره فكرة التحرّر الوطني، وتجربة الحركة الوطنية التي قادها واستعملها في الحكم، لتنتهي إلى التآكل وفقدان السلطة من بوابة الانتفاضة والرفض الشعبي.
مرت ثماني سنوات على وصول الإسلام السياسي التونسي إلى هرم السلطة، باتت فيها حركة النهضة حزب الحكم بامتياز، كما يحلو لقياداتها تعريف حزبهم، ولم تغادره البتة، مستندة إلى شرعيةٍ منحها لها المجلس الوطني التأسيسي ومجلس نواب الشعب. وبالتوازي مع ذلك، أصبحت الحركة الإسلامية قابلةً لتقييم تجربتها، واختبار شعبيتها، بما في ذلك الجنوب التونسي الذي تباهى به الإسلاميون خزّاناً انتخابياً لحكمهم المتواصل، إلا أن تجربة حركة النهضة التي تداولت على مختلف الوزارات، في الحكومات المتعاقبة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، لا سيما التي لها علاقة وثيقة بالتنمية والتشغيل، مثل وزارات التنمية والاستثمار الدولي والتكوين والتشغيل والصحة والنقل والتجهيز والداخلية والجماعات المحلية والبيئة وحتى المالية والتخطيط، وكانت دائماً الجزء الرئيسي في الحكومة، موفّرة لها الغطاء البرلماني والحزام السياسي، انتهت إلى حصيلةٍ هزيلةٍ، وانهيار شامل اقتصادياً ومالياً، حتى أن راشد الغنوشي، وهو يخطب في أنصاره الجنوبيين، لم يقدم منجزاً واحداً، أو مؤشراً إيجابياً يمكنه التباهي به، يُسجّل لحكومات الترويكا ونظيراتها الندائية (نسبة لحزب نداء تونس) والشاهدية (نسبة ليوسف الشاهد) التي كان الحزب الإسلامي مكوناً رئيسياً فيها.
وقوبل وصف الغنوشي الجنوب التونسي بأنه مضمون لفائدة حركة النهضة بالاستهجان