03 أكتوبر 2024
عن داء التعصب وصراع الهويات
تجنح الهوية، في صورتها المنغلقة والأشد خصوصية، إلى العنف في علاقتها مع الآخر المختلف، وتتحول إلى أداة تبريرية لإقصاء المغاير ونفيه، ابتداء من تشويه صورته وشيطتنه، وصولاً إلى مزاولة كل أشكال العنف ضده، والذي قد يجد صورته القصوى في حالات التطهير العرقي التي تشهدها مناطق مختلفة من العالم. وتجد هذه النظرة الدونية للآخر جذورها في حالة التعصب الفكري والعقدي الذي يجنح له بعضهم في محاولته إعلاء خصوصيته، وفرضها على الآخر، بوصفها الحالة الطبيعية التي ينبغي أن تكون عليها الأمور، وربما كانت الحركات القومية العنصرية في تطرفها العرقي (وتشكل النازية والصهيونية تحققها الأقصى) والجماعات الدينية في تشددها الديني (والتي تمثلها حركات أصولية وجماعات طائفية في الديانات المختلفة) التعبير الأوضح لتحولات الهوية من صورتها الاعتيادية، أعني بوصفها تعبيراً عن الخصوصية الثقافية، لتتحول إلى تبرير إلى أقصى أشكال العنف وأقساها. لقد تحولت الاختلافات المذهبية والتعدد الطائفي والعرقي إلى مولد للعنف، ومع قدر مناسب من التحريض، يمكن أن يصبح وعياً متعمقاً منذ النشأة، بهوية ضيقة مع جماعة من الناس إلى سلاح قوي، يوجه ضد جماعة أخرى، تتم شيطنتها، في مرحلة أولى، استعداداً لتصفيتها أو إلغاء فاعليتها وتأثيرها في المشهد السياسي والمجتمعي.
فالعنف يصبح ملازماً للهويات، متى أصبحت تعبيراً عن الكيان الضيق الذي يرفض الانفتاح على الآخر، والتعامل معه بوصفه كياناً مساوياً، من حيث هو إنسان له الحقوق نفسها التي تتسامى على الانتماء العرقي، أو الديني، مهما كانت الاختلافات. فجذور العنف الذي يطغى على الانتماء الهوويّ لدى بعض الجماعات تكمن في حالة التعصب التي ترافق الفعل الإنساني، وتتحول إلى نوع من الهوس الذي يؤمن بالتفوق على الآخر، والداعي إلى نفيه.
يظل العنف أكثر القضايا إلحاحاً لكل من يبحث في قضايا الهوية وسبل الحوار مع الآخر، المختلف ثقافياً أو دينياً أو مذهبياً وحضارياً، بل إن الفلسفة السياسية نفسها ليست إلا تفكيراً في العنف، من أجل تفاديه وإلغائه، وكما يقول إيريك فايل "المشكل الذي يطرح نفسه على من يبحث في طبيعة الحوار ليس أي مشكل آخر غير مشكل العنف ومشكل نفي العنف"، لأن فهم العنف وتشخيص جذوره وأسبابه هو الذي يمنحنا إمكانية البحث في مجاوزته، ومن ثم التأسيس لمنطق الحوار. إن أحد أخطر أسباب الميل إلى العنف ورفض الحوار هو التعصب، ولا نعني، هنا، كل أشكال العنف، فهناك جرائم تقترف لأسباب أخرى متعددة، لكننا نقصد هنا العنف المنظم الذي يجد أقصى صوره وأقساها في الحرب، باعتبارها ممارسة للعنف بصورة شاملة لإبادة الخصم، أو إخضاعه على الأقل.
ويمكن التأكيد، هنا، أن مختلف الحقب التاريخية تقريباً، وفي كل أصقاع الدنيا قد شهدت متعصبين يرون أنفسهم على حق من دون شك. وهذا الحضور الطاغي للتعصب بين الناس يعود، في غالب الأحيان، إلى ارتباطه بهويات تتأسس على منظومات فكرية أو دينية أو قيمية، تعطيه أهمية لا يمكن إنكارها، وهو ما يجعل مجموعات بأكملها تنساق وراء التعصب، وعلى حد قول راسل "التعصب هو أحد الأمراض الذهنية التي تصيب المجتمعات"، على أنه قد يبعث التعصب إلى شيء من الاحترام، أو يدعو إلى نوع من الإعجاب الخفي، ويعود ذلك إلى أمرين:
أولاً: التعصب يمنح شعوراً مريحاً بالعمل المشترك، ويمكن أن نلاحظ هذا داخل المجموعات السياسية، أو الطوائف الدينية والعرقية، وهذا الشعور المشترك بالارتياح يتفاعل مع ميولات الحقد على مجموعات أخرى، وهو ما يجعل المتعصب أكثر ميلاً إلى إقصاء الآخرين الذين لا يشاركونه رؤاه.
ثانياً: التعصب لهوية أو لعقيدة أو لعرق يدفع نحو التضحية بالنفس وإنكار الذات، وهو ما يجعل من المتعصب رمزاً للبذل والعطاء، من دون انتظار أي جزاء. ولكن كل هذه العوامل لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة التعصب، وكيف يتأسس على مستوى الفكر، وماذا ينجر عنه على مستوى الممارسة.
الفكر المتعصب للذات (مذهبية كانت أو قومية، ثقافية أو حضارية)، بوصفه النقيض الموضوعي للحوار، لم يكن يدفع على الدوام إلا إلى العنف، ذلك أنه يفتقر إلى العقلانية والانفتاح على الآخر "فهو لا ينظر إلا إلى جهة واحدة، ولا يفهم البتة فكر الآخرين " كما يقول آلان. فالفكر المتعصب تغيب عنه القدرة على الشك والنقد والمراجعة، ومن ثم إعادة بناء الآراء والتصورات، وفق أسس عقلية تبقى بدورها قابلة للنقاش، إنه أشبه بنوع من الهذيان الخارج عن حركة المجتمع، والمغيب لمنطق التاريخ، بحيث لا يهتم بموقع الذوات الأخرى منه، فمآل الفكر المتعصب والتصورات المتحجرة أنها تفضي إلى عكس ما تدعو إليه، وتطالب به (بوصفها امتداداً للمقدس أو لتصور عن العدالة أو عن الحرية)، أي أنها تؤول إلى طعن الأصول التي قامت عليها، والخروج على المعتقدات التي تدين بها، مع زعم الثبات عندها والمحافظة عليها. لهذا، يمكن أن نلاحظ، وببساطة، أن ذوي الأفكار المغلقة أشد سفكاً للدماء من غيرهم، فالإنسان، في صورته العادية، قد يقتل لسد حاجة، أو لنيل مطلب، أو لإرضاء نزوة. ولهذا، فإن لقتاله حدوداً، أما المنغلق على ذاته، المتعصب لمعتقده، فإنه قد يقتل كل الذين لا يتماهون مع فكره، أو يمارس العنف بصورة عشوائية، لمنزعه العنصري وسلوكه العصابي (لاحظ مثلاً العنف الذي رافق الثورة الفرنسية وكذلك البلشفية أو جرائم الخمير الحمر في كمبوديا وداعش والحشد الشعبي في العراق، أو الأنظمة السياسية المغلقة في المنطقة العربية).
الإعجاب الذي قد يثيره المتعصب، بما يقدمه من تضحيات، إنما هو في الواقع يخفي وراءه أمراً خطيراً، هو أن المثل العليا والشعارات النبيلة كثيراً ما شكلت ذرائع لارتكاب المظالم وانتهاك الحقوق، واستخدمت لرمي الناس في أقبية السجون. ومن هنا، أهمية الرهان على منطق الحوار والتسامح في العلاقة مع الآخر، مهما كان حجم الاختلاف معه.