بدأت رحلة فخري الطوال (مواليد مأدبا 1930) منذ العام 1944. من عامل في فنادق القدس ويافا، إلى مالك وشريك في فنادق صغيرة بعمّان ومأدبا، إلى شخصية اجتماعية ذات حضور أردني عربي وعالمي في المؤتمرات السياحية... ولا يزال فخري حاضراً في هذا العالم حتى اليوم.
كانت الساعة تقارب الواحدة ظهراً حين انطلق سالم الضباعين بسيّارته البويك الأميركية القديمة، من موقف سيارات في مأدبا متّجهاً إلى عمان. كان فخري يرتجف، فقد أربكه شعور الذهاب نحو المجهول. كان في سنّ الـ14، يرتدي ملابس مُهلهَلة لا يُعرف لها لون محددٌ، ويعشّش السيبان في ثنيّاتها المَخيطة بيديّ والدته وإبرتها الطويلة.
تنطوي الرحلة على ما هو بعد عمان، أي القدس تحديداً. كانت عمان محطة يبيت فيها ليلة ليواصل بعدها الرحلة إلى بيت خاله في القدس. لكنّ سيارة البويك البيضاء القديمة تخبطت في الطريق الترابية، توقّفت، تعطّلت، وعادت لتنطلق مرّات عديدة. واستمرّت الرحلة حتى السابعة مساءً، حضر بعدها خاله إسكندر إلى مأدبا لاصطحابه، وعلى سفح جبل الأشرفية، قرب مشفى الستّ العرجا المطلّ على الحمّام القديم، كان يقبع بيت الخال القديم.
في الصباح الباكر انطلقت السيارة إلى القدس. رافقه الخال في الرحلة. اختلفت السيارة الحديثة عن سيارة الضباعين، فخلال ساعتين وصلت القدس. أمضى فخري الرحلة متلفّتاً متسائلاً عما ستكون عليه حاله هناك، وعن الفندق الذي سيعمل فيه. فقد تكون القدس محطةً قبل انتقاله نحو يافا ثم حيفا، كما قال له الخال.
فخري يعرف القدس منذ كان في السادسة من عمره، يومها زارها مع والدته للمشاركة في جنازة جدّه. الجدّ خليل الصوالحة. يذكر بركة ماميلا، باب الخليل، وسوق السويقة. جذبه يومها مشهد الحبال المعلّقة في السوق محمّلة بشفرات الحلاقة "ناسيت". أما مشهد النسوة الفلاحات في السوق أمام سلال الخضر لبيعها فلا يبارح ذهنه. يستذكر تفاصيله: "نعنع وبقدونس وفجل وخسّ وبقلة". نسوة سمعَ أنهنّ يأتينَ من القرى المجاورة للقدس، من سلوان والطور والعيسوية، حاملاتٍ على رؤوسهنّ سلالاً وأسفاطاً وأطباقاً مملوءة فاكهة ولبناً أو بقولا وخضراً. تتّخذ كلّ منهنّ جانباً من السوق، وتضع أمامها سلّتها لتبيع ما فيها.
توقّف فخري يومها دهشاً أمام محال بيع الخزف الجميل، ومحال بيع الزجاج الملوّن والمصنوعات اليدوية من خشب الزيتون. أما في بيت الخال، وعلى مائدة العشاء، فلفتته شرائح لحم غريبة، وحين سأل عنها، قالت له أم جريس إنّها "مرتديلا السنيورة" التي تصنعها واحدةٌ من أشهر العائلات المقدسية.
تدخّل الخال يومها ليقول إنّها "مصنوعة من لحم البقر، ومصنعها تم إنشاؤه في العام 1920". كانت لذيذة جداً، واظب فخري على تناولها طوال الأسبوع الذي أمضاه مع والدته في القدس، حتى أنّه لم يرغب في مغادرة القدس، فهو لن يجد في مأدبا مثيلاً لتلك السنيورة.
لكنّه كان آتياً إلى القدس هارباً من البؤس، بؤس مدينته / القرية، بؤس القمح الذي لا يُطعم خبزاً.
كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، والجنود البريطانيون ينتشرون في شوارع القدس مستفَزّين ومستفِزّين على طول الطريق، شاهرين أسلحتَهم في وجوه العابرين. يومها أخذه خالُه إلى محل لبيع الملابس (ATA)، اشترى ما راق له، وأخبره أنّه من أشهر المتاجر: يُشتهر بالزيّ الموحّد، وأنّه مُلك ثريّ من أثرياء اليهود. بعدها انطلقا إلى المنزل.
في ذلك الصباح المبكر وصل الى بيت خاله في القدس، بشعور الفتى المرهَق. تناول سندويشة مرتديلا السنيورة، واستلقى. مرّت ساعاتٌ عديدة، استفاق عند الظهيرة على أصوات قرقعةٍ في المطبخ، فجذبته رائحة البطاطا المقلية بالزيت وفتحتْ منافسَه. وحين دخل المطبخ قدّمت له زوجة الخال شريحة منها، فالتهمها على عجل، ليلتهب فمه من شدّة حرارتها، من سخونتها وكمية الفلفل فيها، واستمر الألم.
توجّه فخري إلى شارع ماميلا (الذي حرّف الإنكليز اسمه الحقيقي) ليعرف فخري في ما بعد أنّ اسمه الحقيقي "مأمن الله"، نسبة إلى مقام أحد الأولياء. كان فخري مع خاله في طريقهما إلى فندق رويال حيث سيعمل. توقّف لمشاهدة مواكب من البشر، سأل عنهم فقال الخالُ له إنّهم من الذاهبين للاحتفال بموسم النبي موسى.
استمرّا في السير قريباً من مدرسة الفرير، دخلا الفندق الصغير، وقام أبو جريس بتسليمه إلى المسؤول عن خدمات الفندق، ليبدأ العمل في تنظيف الغرف وترتيبها... وتعرّف إلى المَرافق كلّها. راقب حركة النزلاء، كانت غالبيتهم من الضباط والجنود العرب الذين يخدمون في الجيش البريطاني. فأمضى أشهراً قليلة بهذا الفندق، عاملاً براتب مقداره ثمانية جنيهات. فوجئ بعدها بخاله الذي أخبره أنّ الفندق سوف يُباع، وأنّه سينقله إلى فندق في مدينة يافا الجميلة ليعمل هناك.
لم يكن قد شاهد الكثير في القدس، هذه المدينة التي أحبّها منذ لحظة دخولها. لم يكن لديه الوقت ولا المال للخروج والتسكّع في شوارعها وحاراتها القديمة وأسواقها الغنية. ولم يكن له أصدقاء. فما إن يُنهي عمله في المساء، حتّى يتناول عشاءه البسيط المتواضع الثمن، ويعود إلى غرفته متعباً، يستلقي في فراشه ليتأمّل الفراغ قبل أن يباغته النوم.
يتأمل فخري رحلته التي بدأت من مأدبا. يستذكر مشاهد من حياته هناك، حياة الفقر والعثرات والعسر، وهاهو هنا يحاول الاجتهاد مكافحاً لمساعدة أسرته، إخوته وأخواته من والده. ذلك الفلّاح الفقير، الذي لا تكفيه زراعة فدادينه بالقمح لمؤونة أبناء وبنات أنجبتهم زوجته المتوفاة، إضافة إلى ما أنجبت أم فخري.
وفخري هو كبير أخوته، الذي يتغرّب مُكرَها الآن عن أمّه وأبيه وقريته، ليرسل إليهم الجنيهات الثمانية، ويدبّر أمور معيشته مما يحصل عليه من زبائن الفندق، من بخشيش بالكاد يكفي لسدّ الرمق.
كانت الساعة تقارب الواحدة ظهراً حين انطلق سالم الضباعين بسيّارته البويك الأميركية القديمة، من موقف سيارات في مأدبا متّجهاً إلى عمان. كان فخري يرتجف، فقد أربكه شعور الذهاب نحو المجهول. كان في سنّ الـ14، يرتدي ملابس مُهلهَلة لا يُعرف لها لون محددٌ، ويعشّش السيبان في ثنيّاتها المَخيطة بيديّ والدته وإبرتها الطويلة.
تنطوي الرحلة على ما هو بعد عمان، أي القدس تحديداً. كانت عمان محطة يبيت فيها ليلة ليواصل بعدها الرحلة إلى بيت خاله في القدس. لكنّ سيارة البويك البيضاء القديمة تخبطت في الطريق الترابية، توقّفت، تعطّلت، وعادت لتنطلق مرّات عديدة. واستمرّت الرحلة حتى السابعة مساءً، حضر بعدها خاله إسكندر إلى مأدبا لاصطحابه، وعلى سفح جبل الأشرفية، قرب مشفى الستّ العرجا المطلّ على الحمّام القديم، كان يقبع بيت الخال القديم.
في الصباح الباكر انطلقت السيارة إلى القدس. رافقه الخال في الرحلة. اختلفت السيارة الحديثة عن سيارة الضباعين، فخلال ساعتين وصلت القدس. أمضى فخري الرحلة متلفّتاً متسائلاً عما ستكون عليه حاله هناك، وعن الفندق الذي سيعمل فيه. فقد تكون القدس محطةً قبل انتقاله نحو يافا ثم حيفا، كما قال له الخال.
فخري يعرف القدس منذ كان في السادسة من عمره، يومها زارها مع والدته للمشاركة في جنازة جدّه. الجدّ خليل الصوالحة. يذكر بركة ماميلا، باب الخليل، وسوق السويقة. جذبه يومها مشهد الحبال المعلّقة في السوق محمّلة بشفرات الحلاقة "ناسيت". أما مشهد النسوة الفلاحات في السوق أمام سلال الخضر لبيعها فلا يبارح ذهنه. يستذكر تفاصيله: "نعنع وبقدونس وفجل وخسّ وبقلة". نسوة سمعَ أنهنّ يأتينَ من القرى المجاورة للقدس، من سلوان والطور والعيسوية، حاملاتٍ على رؤوسهنّ سلالاً وأسفاطاً وأطباقاً مملوءة فاكهة ولبناً أو بقولا وخضراً. تتّخذ كلّ منهنّ جانباً من السوق، وتضع أمامها سلّتها لتبيع ما فيها.
توقّف فخري يومها دهشاً أمام محال بيع الخزف الجميل، ومحال بيع الزجاج الملوّن والمصنوعات اليدوية من خشب الزيتون. أما في بيت الخال، وعلى مائدة العشاء، فلفتته شرائح لحم غريبة، وحين سأل عنها، قالت له أم جريس إنّها "مرتديلا السنيورة" التي تصنعها واحدةٌ من أشهر العائلات المقدسية.
تدخّل الخال يومها ليقول إنّها "مصنوعة من لحم البقر، ومصنعها تم إنشاؤه في العام 1920". كانت لذيذة جداً، واظب فخري على تناولها طوال الأسبوع الذي أمضاه مع والدته في القدس، حتى أنّه لم يرغب في مغادرة القدس، فهو لن يجد في مأدبا مثيلاً لتلك السنيورة.
لكنّه كان آتياً إلى القدس هارباً من البؤس، بؤس مدينته / القرية، بؤس القمح الذي لا يُطعم خبزاً.
كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، والجنود البريطانيون ينتشرون في شوارع القدس مستفَزّين ومستفِزّين على طول الطريق، شاهرين أسلحتَهم في وجوه العابرين. يومها أخذه خالُه إلى محل لبيع الملابس (ATA)، اشترى ما راق له، وأخبره أنّه من أشهر المتاجر: يُشتهر بالزيّ الموحّد، وأنّه مُلك ثريّ من أثرياء اليهود. بعدها انطلقا إلى المنزل.
في ذلك الصباح المبكر وصل الى بيت خاله في القدس، بشعور الفتى المرهَق. تناول سندويشة مرتديلا السنيورة، واستلقى. مرّت ساعاتٌ عديدة، استفاق عند الظهيرة على أصوات قرقعةٍ في المطبخ، فجذبته رائحة البطاطا المقلية بالزيت وفتحتْ منافسَه. وحين دخل المطبخ قدّمت له زوجة الخال شريحة منها، فالتهمها على عجل، ليلتهب فمه من شدّة حرارتها، من سخونتها وكمية الفلفل فيها، واستمر الألم.
توجّه فخري إلى شارع ماميلا (الذي حرّف الإنكليز اسمه الحقيقي) ليعرف فخري في ما بعد أنّ اسمه الحقيقي "مأمن الله"، نسبة إلى مقام أحد الأولياء. كان فخري مع خاله في طريقهما إلى فندق رويال حيث سيعمل. توقّف لمشاهدة مواكب من البشر، سأل عنهم فقال الخالُ له إنّهم من الذاهبين للاحتفال بموسم النبي موسى.
استمرّا في السير قريباً من مدرسة الفرير، دخلا الفندق الصغير، وقام أبو جريس بتسليمه إلى المسؤول عن خدمات الفندق، ليبدأ العمل في تنظيف الغرف وترتيبها... وتعرّف إلى المَرافق كلّها. راقب حركة النزلاء، كانت غالبيتهم من الضباط والجنود العرب الذين يخدمون في الجيش البريطاني. فأمضى أشهراً قليلة بهذا الفندق، عاملاً براتب مقداره ثمانية جنيهات. فوجئ بعدها بخاله الذي أخبره أنّ الفندق سوف يُباع، وأنّه سينقله إلى فندق في مدينة يافا الجميلة ليعمل هناك.
لم يكن قد شاهد الكثير في القدس، هذه المدينة التي أحبّها منذ لحظة دخولها. لم يكن لديه الوقت ولا المال للخروج والتسكّع في شوارعها وحاراتها القديمة وأسواقها الغنية. ولم يكن له أصدقاء. فما إن يُنهي عمله في المساء، حتّى يتناول عشاءه البسيط المتواضع الثمن، ويعود إلى غرفته متعباً، يستلقي في فراشه ليتأمّل الفراغ قبل أن يباغته النوم.
يتأمل فخري رحلته التي بدأت من مأدبا. يستذكر مشاهد من حياته هناك، حياة الفقر والعثرات والعسر، وهاهو هنا يحاول الاجتهاد مكافحاً لمساعدة أسرته، إخوته وأخواته من والده. ذلك الفلّاح الفقير، الذي لا تكفيه زراعة فدادينه بالقمح لمؤونة أبناء وبنات أنجبتهم زوجته المتوفاة، إضافة إلى ما أنجبت أم فخري.
وفخري هو كبير أخوته، الذي يتغرّب مُكرَها الآن عن أمّه وأبيه وقريته، ليرسل إليهم الجنيهات الثمانية، ويدبّر أمور معيشته مما يحصل عليه من زبائن الفندق، من بخشيش بالكاد يكفي لسدّ الرمق.