01 نوفمبر 2024
عن سجالات قانون التوبة في تونس
لست على دراية بأن ما صدع به الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، وهو يصرّح لـ "أرونيوز" و"فرانس براس" إنّ تونس تتّخذ كل الإجراءات الضروريّة ليتمّ تحييد الجهاديّين التونسيّين العائدين من بؤر النزاع في سورية والعراق، إنما ينبع من رؤيةٍ ذاتيةٍ للمسألة الجهادية – التكفيرية، وطبيعتها الإرهابية وخلفياتها الدينية والسياسية، وأبعادها الجغرا-استراتيجية، في إعادة صياغة المجتمعات والشعوب وتشكيل الدول، لكن المعلوم لدى المهتمين بهذه المسألة، والعارفين بخفاياها، أن الرئيس السبسي عبّر عن موقفه مباشرةً بعد انتهاء الندوة الدولية للاستثمار في تونس، في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المنقضي، وبعد زيارته مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، يومي 30 نوفمبر و1 ديسمبر/ كانون الأول، ما أعطى الانطباع بأن هذا الموقف نتيجة مباشرة للزيارة ولإملاءات المانحين والمستثمرين الدوليين، وأحد شروطهم لإنقاذ الاقتصاد والمالية التونسية المتداعية.
جاءت مبادرة السبسي في ما بات يعرف بقانون التوبة، وموقفه من عودة المقاتلين الجهاديين التونسيين، الذين تعجّ بهم بؤر التوتر والحروب في العراق وسورية وليبيا، والذين يقدّرهم تقرير مجموعة الأزمات الدولية لسنة 2016 عن العنف الجهادي في تونس ما بين 3000 و6000 شخص، جاء في شكل المدافع عن حقٍّ ضمنه الدستور التونسي، وعدم قدرة أيٍّ كان على منع مواطنين تونسيين من العودة إلى بلدهم، أو حرمانهم من الجنسية التونسية، مردفاً كلامه بأن "السجون التونسية لا تتسع لهذا الكم الهائل من المقاتلين"، المحتملة عودتهم إلى تونس قريباً، لا سيما بعد الحسم المنتظر لمعركتي الموصل وحلب، ما يستدعي العمل على إدماجهم، بدلاً من زجرهم ومعاقبتهم. ولكن القضية سرعان ما أخذت أبعاداً أخرى، بعد أن عبّرت قوى مدنية ونقابية وأمنية وإعلامية نافذة، وأحزاب سياسية مؤثّرة، عن رفضها هذا التمشي، وهذه المقاربة في معالجة قضية شريحةٍ مجتمعيةٍ ضلّت الطريق، وزلّت بها القدم، فبات وجودها يهدّد السلم الاجتماعي والدولة التونسية.
دفع هذا الرفض الرئيس التونسي إلى التراجع عن موقفه الأول، والتصريح يوم 10 ديسمبر الجاري، إنه يرفض قانون التوبة والتسامح والعفو عن الإرهابيين التونسيين الذين يقاتلون في بؤر التوتر. لكن هذا التراجع لم يُعتبر ألبتّة تراجعاً أو تبدّلاً في الموقف، وترشيدا له، وتعقلا
من رئيس الجمهورية التونسية، وإنما عدّ مناورةً سياسيةً، تهدف إلى إطفاء اللهيب الذي أشعلته المواقف الرئاسية السابقة في صفوف المجتمع المدني والطبقة السياسية. لم تتوقف السّجالات والمناكفات بعد تراجع الرئيس، وأخذت مناحي تاريخية مقارنة، ودعوات إلى استفتاء الشعب على استمرار الرئيس في منصبه من عدمه، على خلفية موقفه الخطير الذي صدع به، بدلاً من استفتائه بشأن عودة الجهاديين التكفيريين. استدلّ بعضهم على عقم فكرة المصالحة مع الجهاديين التكفيريين بطوباوية المراجعات التي قامت بها الجماعة الليبية المقاتلة، إبّان السنوات الأخيرة من حكم معمر القذافي في ليبيا، وصدرت في كتاب "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس"، حيث تنكّرت تلك الجماعات لعهودها في عدم ممارسة العنف، وعادت إلى القتال سنة 2011. كما تم استحضار تجربة الجزائر بشأن قوانين التوبة والوئام المدني وميثاقها للسلم والمصالحة الوطنية في النقاش العام، إلا أن هذه التجربة لم تُعتبر خيارا أمثل في معالجة قضية العائدين من بؤر القتال، وتورّطهم في الإرهاب الدولي، واستخدامهم في محاربة الدول بغاية تغيير نظمها السياسية أو تفكيكها بالكامل.
اضطرّت الدولة الجزائرية إلى المصالحة مع من لم يتورّط في القتل والاغتصاب من أنصار الفكر الجهادي التكفيري وحملة السلاح، بعد استفتاءٍ أجري في الغرض، بناء على مقاربة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للمسألة الإرهابية، ولامتصاص نتائج العشرية السوداء، وما صاحبها من حمامات دم قضى فيها أكثر من 200 ألف جزائري، وهو ما يعدّ نوعاً من الاعتراف غير المعلن بأخطاء التمشّي السياسي الذي اختارته الحكومة الجزائرية في تعاملها مع نتائج الانتخابات التشريعية، في مطلع عشرية التسعينيات من القرن العشرين، حيث ألغيت نتائجها، بأن وفرت المناخ السياسي المنتج للاحتقان والعنف الذي استفاد منه حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتنظيمات المسلحة المنبثقة منه.
كان الأمر في تونس مغايرا، فقد تعاملت الثورة التونسية المدنية البريئة لسنة 2011 بشيء من التسامح والبراءة السياسية غير المعهودة مع التيار الجهادي التكفيري، فمنحت العفو العام لجميع قياداته وأنصاره، بمن فيهم من شارك في أحداث سليمان المسلّحة سنة 2006-2007، ومن قاتل في أفغانستان والعراق والصومال والشيشان والبوسنة، وأفرجت عنهم جميعا، وألغت الأحكام القضائية الصادرة في حق بعضهم، وأسقطت التتبّعات الأمنية عن
آخرين، ومكّنت مغتربيهم من العودة والعيش بسلام بين أهلهم وذويهم، ووفرت فرص شغل في مؤسسات الدولة لعديدين منهم، وأعطتهم الحقوق السياسية التي لغيرهم، ودعتهم إلى الانخراط في الحياة العامة، وتكوين الأحزاب، والمشاركة في الانتخابات، للوصول إلى السلطة عن طريق الصندوق الذي استفاد منه غيرهم من الأحزاب الإسلامية، وبعث الجمعيات والمساهمة في المجتمعين الأهلي والمدني. إلا أن هذا التيار، بمختلف تشكيلاته وفصائله، استغلّ مناخ الحرية وسقوط الاستبداد، ليعيد تنظيم نفسه، ويبشّر التونسيين بالعنف والقتل والاغتيالات وبرك الدم التي تحولت، بسرعةٍ، إلى أمر واقع، يستهدف مؤسسات الدولة الوطنية، وفق استراتيجية الإنهاك والتوحش، من أجل أن تحلّ محلها دولة الإمارة التي طالما حلم بها أنصاره ومريدوه. وأبى هذا التيار إلا أن يكون شبابه وقوداً لحروبٍ دوليةٍ، تديرها شركات صنع الأسلحة والقوى العظمى التي لها مصلحة في تلك الحروب والصراعات، بعد أن انطلت عليه الحيلة بأن قتاله جهادٌ في سبيل الله، والحال أن ذلك القتال كان في سبيل تغيير الخارطة السياسية الناتجة عن معاهدة لوزان لسنة 1923 التي رسمت ملامح تركيا غير العثمانية، ومآلات ولاياتها العربية التي وزعت تركتها دول الاستعمار الأوروبي فيما بينها.
هي نفسها القوى العظمى التي تريد اليوم إرجاع من تبقوا من مقاتلين "جهاديين" إلى أوطانهم الأصلية، بعد أن قضت منهم وطراً، لصالح خرائط جديدة تأبى الارتسام، في محاولة استباق إعادة انتشارهم، ما قد ينشئ بؤر توتر وحروباً غير متوقعة، واستهداف مصالح تلك القوى في مناطق أخرى تنعم بالسلم والاستقرار، في ضربةٍ مرتدّةٍ جديدةٍ شبيهةٍ بتمرّد تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة الأميركية وأجهزة استخباراتها بعد نهاية وظيفته، بانتهاء الحرب الأفغانية السوفياتية في أواخر عشرية الثمانينيات من القرن الماضي.
خاتمة القول إن التونسيين، ونخبهم السياسية والفكرية والمدنية والنقابية والحقوقية والإعلامية، الذين يستفيدون اليوم من المنظومة الديمقراطية، ويجنون ثمار الحرّية التي ناضلوا من أجلها طويلاً، بمختلف اتجاهاتهم وتياراتهم، أبدوا رفضاً قطعياً لموقف رئيس الدولة الداعي إلى إعادة إدماج مقاتلي التيارات "الجهادية" في المجتمع، لأن ذلك الإدماج سيكون مقدمةً لإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة التي استمرّ النضال من أجل تحقيقها ما يزيد عن القرن، على امتداد فترة الاستعمار الفرنسي المباشر، وفترتي حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. تعد هذه التجربة الديمقراطية المدخل الوحيد للعيش المشترك والاعتراف بالآخر والتداول السلمي على السلطة بين القوى السياسية المدنية على تنوع مدارسها، أما القوى الدولية فعليها أن تبحث عن حلّ لمشكلٍ أوجدته هي بنفسها، ولا طاقة لتونس اليوم على تحمّل تبعاته ونتائجه.
جاءت مبادرة السبسي في ما بات يعرف بقانون التوبة، وموقفه من عودة المقاتلين الجهاديين التونسيين، الذين تعجّ بهم بؤر التوتر والحروب في العراق وسورية وليبيا، والذين يقدّرهم تقرير مجموعة الأزمات الدولية لسنة 2016 عن العنف الجهادي في تونس ما بين 3000 و6000 شخص، جاء في شكل المدافع عن حقٍّ ضمنه الدستور التونسي، وعدم قدرة أيٍّ كان على منع مواطنين تونسيين من العودة إلى بلدهم، أو حرمانهم من الجنسية التونسية، مردفاً كلامه بأن "السجون التونسية لا تتسع لهذا الكم الهائل من المقاتلين"، المحتملة عودتهم إلى تونس قريباً، لا سيما بعد الحسم المنتظر لمعركتي الموصل وحلب، ما يستدعي العمل على إدماجهم، بدلاً من زجرهم ومعاقبتهم. ولكن القضية سرعان ما أخذت أبعاداً أخرى، بعد أن عبّرت قوى مدنية ونقابية وأمنية وإعلامية نافذة، وأحزاب سياسية مؤثّرة، عن رفضها هذا التمشي، وهذه المقاربة في معالجة قضية شريحةٍ مجتمعيةٍ ضلّت الطريق، وزلّت بها القدم، فبات وجودها يهدّد السلم الاجتماعي والدولة التونسية.
دفع هذا الرفض الرئيس التونسي إلى التراجع عن موقفه الأول، والتصريح يوم 10 ديسمبر الجاري، إنه يرفض قانون التوبة والتسامح والعفو عن الإرهابيين التونسيين الذين يقاتلون في بؤر التوتر. لكن هذا التراجع لم يُعتبر ألبتّة تراجعاً أو تبدّلاً في الموقف، وترشيدا له، وتعقلا
اضطرّت الدولة الجزائرية إلى المصالحة مع من لم يتورّط في القتل والاغتصاب من أنصار الفكر الجهادي التكفيري وحملة السلاح، بعد استفتاءٍ أجري في الغرض، بناء على مقاربة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للمسألة الإرهابية، ولامتصاص نتائج العشرية السوداء، وما صاحبها من حمامات دم قضى فيها أكثر من 200 ألف جزائري، وهو ما يعدّ نوعاً من الاعتراف غير المعلن بأخطاء التمشّي السياسي الذي اختارته الحكومة الجزائرية في تعاملها مع نتائج الانتخابات التشريعية، في مطلع عشرية التسعينيات من القرن العشرين، حيث ألغيت نتائجها، بأن وفرت المناخ السياسي المنتج للاحتقان والعنف الذي استفاد منه حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتنظيمات المسلحة المنبثقة منه.
كان الأمر في تونس مغايرا، فقد تعاملت الثورة التونسية المدنية البريئة لسنة 2011 بشيء من التسامح والبراءة السياسية غير المعهودة مع التيار الجهادي التكفيري، فمنحت العفو العام لجميع قياداته وأنصاره، بمن فيهم من شارك في أحداث سليمان المسلّحة سنة 2006-2007، ومن قاتل في أفغانستان والعراق والصومال والشيشان والبوسنة، وأفرجت عنهم جميعا، وألغت الأحكام القضائية الصادرة في حق بعضهم، وأسقطت التتبّعات الأمنية عن
هي نفسها القوى العظمى التي تريد اليوم إرجاع من تبقوا من مقاتلين "جهاديين" إلى أوطانهم الأصلية، بعد أن قضت منهم وطراً، لصالح خرائط جديدة تأبى الارتسام، في محاولة استباق إعادة انتشارهم، ما قد ينشئ بؤر توتر وحروباً غير متوقعة، واستهداف مصالح تلك القوى في مناطق أخرى تنعم بالسلم والاستقرار، في ضربةٍ مرتدّةٍ جديدةٍ شبيهةٍ بتمرّد تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة الأميركية وأجهزة استخباراتها بعد نهاية وظيفته، بانتهاء الحرب الأفغانية السوفياتية في أواخر عشرية الثمانينيات من القرن الماضي.
خاتمة القول إن التونسيين، ونخبهم السياسية والفكرية والمدنية والنقابية والحقوقية والإعلامية، الذين يستفيدون اليوم من المنظومة الديمقراطية، ويجنون ثمار الحرّية التي ناضلوا من أجلها طويلاً، بمختلف اتجاهاتهم وتياراتهم، أبدوا رفضاً قطعياً لموقف رئيس الدولة الداعي إلى إعادة إدماج مقاتلي التيارات "الجهادية" في المجتمع، لأن ذلك الإدماج سيكون مقدمةً لإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة التي استمرّ النضال من أجل تحقيقها ما يزيد عن القرن، على امتداد فترة الاستعمار الفرنسي المباشر، وفترتي حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. تعد هذه التجربة الديمقراطية المدخل الوحيد للعيش المشترك والاعتراف بالآخر والتداول السلمي على السلطة بين القوى السياسية المدنية على تنوع مدارسها، أما القوى الدولية فعليها أن تبحث عن حلّ لمشكلٍ أوجدته هي بنفسها، ولا طاقة لتونس اليوم على تحمّل تبعاته ونتائجه.