3 أفلام روائية طويلة جديدة لـ 3 مخرجات سينمائيات عربيات تُطلق عروضها الدولية الأولى في مهرجانين سينمائيين، أوّلهما يُشكّل أحد أهمّ 3 مهرجانات دولية في العالم (البندقية، إيطاليا)، وثانيهما يعدّ حيّزًا أساسيًّا لإطلاق كلّ جديد ممكن، بعيداً من لغة المنافسة والجوائز (تورنتو، كندا). الأفلام الـ 3 هي: "3000 ليلة" للفلسطينية مي المصري (1959)، و"لا تعرف الخوف" للّبنانية الفرنسية دانيال عربيد (1970)، و"على حلّة عيني" للتونسية ليلى بوزيد (1984). 3 أفلام تُعرض في برنامج "السينما العالمية المعاصرة" في الدورة الـ 40 (10 ـ 20 سبتمبر 2015) لـ "مهرجان تورنتو السينمائي"، بينما يُعرض "على حلّة عيني" في برنامج "أيام فينيسيا"، في الدورة الـ 72 (2 ـ 12 سبتمبر 2015) لـ "مهرجان البندقية السينمائيّ الدوليّ".
السينما أولاً
3 أفلام جديدة لـ 3 مخرجات منتميات إلى أجيال سينمائية مختلفة، وأساليب عمل متنوّعة. هذه دعوة إلى التوقّف، ولو قليلاً، عند صناعة الفيلم السينمائي العربيّ على أيدي مخرجات عربيات، ينطلقن في معالجاتهنّ البصرية من قضايا فردية تنفتح على الجماعة، وإن يبقين منضويات في إطار الصناعة السينمائية المتكاملة. بمعنى آخر، لن تذهب قراءة الحضور النسائيّ في صناعة السينما العربية إلى بحث ثقافي ـ سوسيولوجي/ جندريّ يُفرّق بين الرجل والمرأة في عمل فني مُطالَب، قبل كلّ شيء آخر، باستيفائه شروطه الفنية الإبداعية الخاصّة بالفن السابع وبصناعته؛ وإن يتمكّن بعض النقّاد والباحثين من فهم المختلِف في أفلامهنّ عن نتاجات مخرجين رجال، إنْ كان الـ "مختلِف" هذا موجوداً، في مقاربة الحكاية وسردها، أو في الفضاء الفيلميّ العام، أو في كيفية الاشتغال.
الأفلام الـ 3 حديثة الإنتاج تُقدِّم 3 نماذج سينمائية مختلفة، باختلاف الحضور الفني لكلّ مخرجة من مخرجاتها. فمي المصري تُنجز فيلمها الروائي الطويل الأول، بعد أعوام طويلة (بدءاً من النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم) من العمل التوثيقيّ المشترك مع زوجها السينمائيّ اللبناني جان شمعون (1944). لدانيال عربيد تاريخٌ من العمل السينمائيّ المتنوّع: وثائقيات، فيديو، وأفلام روائية طويلة عديدة: "معارك حبّ" (2004)، و"رجل ضائع" (2007)، و"بيروت بالليل" (2012). أما ليلى بوزيد، فتُعلن حضوراً سينمائياً لها من خلال أول روائيّ طويل، بعد فيلمين قصيرين هما: "مخبي في قبة" (فيلم التخرّج من معهد "فيميس" في باريس، الذي تُنجزه قبل أشهر قليلة على اندلاع "ثورة الياسمين" في 17 ديسمبر 2010 في بلدها تونس)، والثاني بعنوان "زكريا"، الذي تُحقّقه مع ممثلين غير محترفين في جنوب فرنسا.
استعادة البحث في سينما عربية تصنعها المرأة، منطلقة من محاولة الإضاءة على اشتغال إخراجيّ لشابات يسعين إلى جعل الكاميرا مرآة كشف أو تعرية أولاً، وأداة تعبير سينمائيّ يضع الصورة ولغتها في المرتبة الأولى، بالتساوي مع أهمية المواضيع المختارة وآليات المعالجة، فنياً وتقنياً وجمالياً، ثانياً. استعادة تحاول طرح أسئلة العلاقة بين السينما والمرأة، كشخصية أو كمخرجة، بالتوقّف عند أمثلة تُقدّم بعض لقطات المشهد العام.
اقرأ أيضاً: المهرجانات السينمائية العربية.. تراجع القديم وتقدّم الجديد
لا شكّ في أن هناك مخرجات سينمائيات عربيات يحوّلن أفلاماً لهنّ إلى ما يُشبه نصّاً خطابياً في الدفاع عن المرأة بطريقة تنتقص من القيم الفنية والجمالية والدرامية للصنيع السينمائيّ، ومن أهمية الموضوع الإنساني العام المتعلّق بالمرأة وحضورها في المجتمع وأنماط الحياة اليومية. لا شكّ في أن مخرجات كهؤلاء يضعن "القضايا" في مرتبة أولى، ويتجاهلن الشرط الإبداعي للصنيع الفيلميّ، ظنّاً منهنّ أن المادة الدرامية تتفوّق على كل شيء آخر، وأن الفن السابع لن يكون أكثر من مطيّة لبلوغ هدف يُعتبر، رغم كل شيء، مهمّاً. مثلٌ أول: "صخرة القصبة" (2013) للمغربية ليلى مراكشي (1975) يُعتبر أحد الأفلام هذه، المنهمكة في طرح أسئلة المرأة وحقوقها وحريتها والتزاماتها في بيئة مجتمعية محافظة. مثلٌ ثان: "وهلأ لوين؟" (2011) للّبنانية نادين لبكي (1974)، التي تمثّل في "صخرة القصبة" أحد الأدوار النسائية الأساسية أيضاً. في فيلمها الروائي الطويل الثاني هذا، تُقدّم لبكي صورة عن دور المرأة في الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال نسق كوميديّ مسلٍّ وبسيط وعاديّ، وتحاول التأكيد على كونها فعلاً توازنياً داخل المجتمع اللبناني، المنقسم على ذاته بين طرفين أساسيين يسعيان إلى عيش مشترك ما بينهما. وتؤدّي في "صخرة القصبة" دور شابّة تشرب الـ "بيرة"، وتتمرّد على نظام عائلي ـ قبليّ في التعاطي مع المرأة، وتعاني ارتباكاً فظيعاً في العيش داخل حصار خانق.
نموذجان
عبر سرد وقائع لقاء عائليّ بين 3 شقيقات وأم وأقارب، إثر رحيل كبير العائلة (الدور السينمائيّ الأخير للممثل المصري الراحل عمر الشريف)، ترسم ليلى مراكشي في "صخرة القصبة" صُوراً متنوّعة عن حالات وانفعالات خاصّة بالمرأة، بتنويعات ارتباطاتها بمحيطها أو بيئتها أو حياتها. الاغتراب في مقابل البقاء في كنف العائلة (والنتائج المترتّبة عن الحالتين)، والسعي إلى الخروج على المفهوم القبائليّ للعائلة يواجه خفايا الراحل/ الرجل/ الذكر في تعاطيه مع النساء والمحيطين به. صُوَرٌ عديدة لأحوال نساء يعشن على الحوافي الأخيرة للقهر والتمزّق، لكنها مُلتَقطة بكاميرا سينمائية لا تبلغ مرتبة الإبداع البصريّ، لشدّة انحيازها إلى التزام "نضال" مُسطّح من أجل المرأة وحقوقها وواجباتها (نصّ يمتلئ بخطابية مباشرة غالباً). بينما تذهب نادين لبكي في "وهلأ لوين؟" إلى محاكاة واقع لبناني عبر استخدام ما يُشبه الكوميديا الساخرة في مقاربة أحوال بلد ومجتمع ممزّقين، مُعليةً شأن المرأة في الإمساك (بل في ضرورة الإمساك) بالبيئة المجتمعية، والسيطرة عليها بشتّى الوسائل، لإنقاذ الرجل من ذاته. فالمرأة، في الفيلم هذا، خلاصٌ منتظر، بينما الرجل "مصيبة" تأخذ الجميع إلى خراب لا يتوقّف إلاّ بفضل المرأة وحنكتها وجرأتها.
لا يختزل هذان النموذجان النتاج السينمائي النسائي العربي كلّه، بل يكشفان جانباً من آلية العمل السينمائيّ. جدّية الطرح الثقافي ـ الإنسانيّ للمرأة في الفيلم المغربيّ تُقابلها خفّة بصرية في التعاطي مع السينما أولاً، ومع المسائل الحياتية والاجتماعية والإنسانية ثانياً، كما هو حاصلٌ، إلى حدّ ما، في الفيلم اللبناني. لكن التركيز على/ أو اختيار المرأة شخصية أساسية في البناء الدرامي لأي صنيع سينمائي عربي لن يكون انعكاساً لنضال نسوي بحت، ولن يُشكّل لحظة تأمّل في الجانب هذا فقط من دون سواه، لأن أفلاماً عربية مُنجزة في الأعوام القليلة الفائتة على أيدي مخرجات شابات تحديداً تعكس نقيض هذا تماماً. أفلام تُخرجها شابات ملتزمات همّاً سينمائياً صرفاً يقضي، من بين أمور عديدة، التحرّر من رداءة الخطابية، والذهاب بعيداً في اختبار المدى الحيوي والإبداعي للصورة السينمائية في مقاربة المواضيع كلّها. أفلام يتمحور بعضها حول مسائل نسائية، أو يرتكز بعضها الآخر على كون المرأة شخصية محورية. لكن الأهمّ كامنٌ في أن النتاج سينمائيّ، وفي أن كمية الالتزام النسوي الجاف منعدمة، أو شبه منعدمة، أو مُصوّرة بآليات اشتغال سينمائي صرف. أفلام تنسجم وأدوات التعبير السينمائي، وتلتزم أيضاً همّاً جماليّاً ـ فنياً ـ بصريّاً كخطوة أولى وضرورية وأساسية لإنجاز صنيع سينمائي، وتطرح أسئلتها المتنوّعة من خلال نسق فني ـ درامي ـ جمالي متماسك الشكل، ومتين الصُنعة.
حيوية الصورة السينمائية
الأمثلة عديدة، بدءاً من الشابتين المصريتين نادين خان (1979) وهالة لطفي (1973). الأولى تُحقِّق "هرج ومرج" (2013)، والثانية تُنجز "الخروج للنهار" (2012). ميزات عديدة تجمع الفيلمين على مستويي الشكل والمضمون: اعتماد لغة الصورة في مقاربة الحكاية، وتحويل المونتاج إلى دفقٍ إنساني من المشاعر عبر لغة الصمت (الخروج للنهار)، أو من خلال الإمعان في تفكيك البُنى المختلفة للناس وأحوالهم (هرج ومرج). شدّة الصمت في فيلم هالة لطفي اشتغال بصريّ قادر على التوغّل عميقاً في نفوس وحالات وأحاسيس تلتزم سياقاً سينمائياً متكاملاً في سرد حكاية امرأتين (أم وابنة) تعيشان اللحظات الأخيرة من حياة رجل (زوج/ أب) ذاهب، بسبب مرضه، إلى الموت. هذا في مقابل شدّة التمعّن في أشياء الحياة اليومية لمجموعة شباب وصبايا ورجال ونساء في بقعة جغرافية واحدة (هرج ومرج)، وفي تفكيك بناها الاجتماعية والإنسانية والنفسية، عبر سرد وقائع عيشهم في هموم عامة، كالفقر والبحث عن منفذ وتنفيس الاحتقان العاطفي المعطّل، إلخ.
مخرجات لبنانيات شابات يتوجّهن، بأفلامهنّ الوثائقية تحديداً (المُنجزة في الأعوام القليلة الفائتة على الأقلّ)، إلى ذاكرة جماعية عبر قصص أفراد، رجالٍ ونساءٍ معاً. يغلب على بعض الأفلام هذه صورة الرجل (الأب)، في محاولة البحث عن معاني العلاقة الفردية به، وعن تفاصيل الماضي، وعن مسعى ما إما إلى الانقلاب عليه/ على التاريخ والذاكرة اللذين يمثّل شيئاً كبيراً منهما، وإما إلى المصالحة الإنسانية الفردية معه. إليان الراهب (1972) تضع الرجل، الأب أو المسؤول الأمني، في مواجهة المرأة، أي المخرجة نفسها بصفتها ابنة ومخرجة، أو الأم الباحثة عن أجوبة على سؤال اختفاء ابنها أثناء الحرب الأهلية. في "ليالٍ بلا نوم" (2012) مثلاً، تفتح ملف المفقودين والمخطوفين خلال الحرب اللبنانية، من خلال لقاء يجمع مسؤولاً أمنياً سابقاً في "القوات اللبنانية" (أسعد شفتري) بأم شاب مقاتل في "الحزب الشيوعي اللبناني" (مريم السعيدي). المرأة هنا امرأتان: أم تقف على التخوم القاسية لوجع لا يهدأ، ومخرجة باحثة ـ عبر الكاميرا السينمائية ـ في التباسات الراهن والماضي والعلاقات اللبنانية المعطوبة. لكنها، في "هيدا لبنان" (2008)، تواجه الرجل/ الأب في مستويات عديدة، تبدأ من علاقة كل واحد منهما بالبلد والتاريخ والمسارات السياسية ـ الثقافية ـ الاجتماعية المختلفة، وتكاد لا تنتهي عند جوهر العلاقة الملتبسة والمتوترة بين المخرجة والأب.
قراءة مختصرة عن واقع محتاج إلى نقاش نقدي أوسع وأعمق.
(كاتب لبناني)
السينما أولاً
3 أفلام جديدة لـ 3 مخرجات منتميات إلى أجيال سينمائية مختلفة، وأساليب عمل متنوّعة. هذه دعوة إلى التوقّف، ولو قليلاً، عند صناعة الفيلم السينمائي العربيّ على أيدي مخرجات عربيات، ينطلقن في معالجاتهنّ البصرية من قضايا فردية تنفتح على الجماعة، وإن يبقين منضويات في إطار الصناعة السينمائية المتكاملة. بمعنى آخر، لن تذهب قراءة الحضور النسائيّ في صناعة السينما العربية إلى بحث ثقافي ـ سوسيولوجي/ جندريّ يُفرّق بين الرجل والمرأة في عمل فني مُطالَب، قبل كلّ شيء آخر، باستيفائه شروطه الفنية الإبداعية الخاصّة بالفن السابع وبصناعته؛ وإن يتمكّن بعض النقّاد والباحثين من فهم المختلِف في أفلامهنّ عن نتاجات مخرجين رجال، إنْ كان الـ "مختلِف" هذا موجوداً، في مقاربة الحكاية وسردها، أو في الفضاء الفيلميّ العام، أو في كيفية الاشتغال.
الأفلام الـ 3 حديثة الإنتاج تُقدِّم 3 نماذج سينمائية مختلفة، باختلاف الحضور الفني لكلّ مخرجة من مخرجاتها. فمي المصري تُنجز فيلمها الروائي الطويل الأول، بعد أعوام طويلة (بدءاً من النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم) من العمل التوثيقيّ المشترك مع زوجها السينمائيّ اللبناني جان شمعون (1944). لدانيال عربيد تاريخٌ من العمل السينمائيّ المتنوّع: وثائقيات، فيديو، وأفلام روائية طويلة عديدة: "معارك حبّ" (2004)، و"رجل ضائع" (2007)، و"بيروت بالليل" (2012). أما ليلى بوزيد، فتُعلن حضوراً سينمائياً لها من خلال أول روائيّ طويل، بعد فيلمين قصيرين هما: "مخبي في قبة" (فيلم التخرّج من معهد "فيميس" في باريس، الذي تُنجزه قبل أشهر قليلة على اندلاع "ثورة الياسمين" في 17 ديسمبر 2010 في بلدها تونس)، والثاني بعنوان "زكريا"، الذي تُحقّقه مع ممثلين غير محترفين في جنوب فرنسا.
استعادة البحث في سينما عربية تصنعها المرأة، منطلقة من محاولة الإضاءة على اشتغال إخراجيّ لشابات يسعين إلى جعل الكاميرا مرآة كشف أو تعرية أولاً، وأداة تعبير سينمائيّ يضع الصورة ولغتها في المرتبة الأولى، بالتساوي مع أهمية المواضيع المختارة وآليات المعالجة، فنياً وتقنياً وجمالياً، ثانياً. استعادة تحاول طرح أسئلة العلاقة بين السينما والمرأة، كشخصية أو كمخرجة، بالتوقّف عند أمثلة تُقدّم بعض لقطات المشهد العام.
اقرأ أيضاً: المهرجانات السينمائية العربية.. تراجع القديم وتقدّم الجديد
لا شكّ في أن هناك مخرجات سينمائيات عربيات يحوّلن أفلاماً لهنّ إلى ما يُشبه نصّاً خطابياً في الدفاع عن المرأة بطريقة تنتقص من القيم الفنية والجمالية والدرامية للصنيع السينمائيّ، ومن أهمية الموضوع الإنساني العام المتعلّق بالمرأة وحضورها في المجتمع وأنماط الحياة اليومية. لا شكّ في أن مخرجات كهؤلاء يضعن "القضايا" في مرتبة أولى، ويتجاهلن الشرط الإبداعي للصنيع الفيلميّ، ظنّاً منهنّ أن المادة الدرامية تتفوّق على كل شيء آخر، وأن الفن السابع لن يكون أكثر من مطيّة لبلوغ هدف يُعتبر، رغم كل شيء، مهمّاً. مثلٌ أول: "صخرة القصبة" (2013) للمغربية ليلى مراكشي (1975) يُعتبر أحد الأفلام هذه، المنهمكة في طرح أسئلة المرأة وحقوقها وحريتها والتزاماتها في بيئة مجتمعية محافظة. مثلٌ ثان: "وهلأ لوين؟" (2011) للّبنانية نادين لبكي (1974)، التي تمثّل في "صخرة القصبة" أحد الأدوار النسائية الأساسية أيضاً. في فيلمها الروائي الطويل الثاني هذا، تُقدّم لبكي صورة عن دور المرأة في الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال نسق كوميديّ مسلٍّ وبسيط وعاديّ، وتحاول التأكيد على كونها فعلاً توازنياً داخل المجتمع اللبناني، المنقسم على ذاته بين طرفين أساسيين يسعيان إلى عيش مشترك ما بينهما. وتؤدّي في "صخرة القصبة" دور شابّة تشرب الـ "بيرة"، وتتمرّد على نظام عائلي ـ قبليّ في التعاطي مع المرأة، وتعاني ارتباكاً فظيعاً في العيش داخل حصار خانق.
نموذجان
عبر سرد وقائع لقاء عائليّ بين 3 شقيقات وأم وأقارب، إثر رحيل كبير العائلة (الدور السينمائيّ الأخير للممثل المصري الراحل عمر الشريف)، ترسم ليلى مراكشي في "صخرة القصبة" صُوراً متنوّعة عن حالات وانفعالات خاصّة بالمرأة، بتنويعات ارتباطاتها بمحيطها أو بيئتها أو حياتها. الاغتراب في مقابل البقاء في كنف العائلة (والنتائج المترتّبة عن الحالتين)، والسعي إلى الخروج على المفهوم القبائليّ للعائلة يواجه خفايا الراحل/ الرجل/ الذكر في تعاطيه مع النساء والمحيطين به. صُوَرٌ عديدة لأحوال نساء يعشن على الحوافي الأخيرة للقهر والتمزّق، لكنها مُلتَقطة بكاميرا سينمائية لا تبلغ مرتبة الإبداع البصريّ، لشدّة انحيازها إلى التزام "نضال" مُسطّح من أجل المرأة وحقوقها وواجباتها (نصّ يمتلئ بخطابية مباشرة غالباً). بينما تذهب نادين لبكي في "وهلأ لوين؟" إلى محاكاة واقع لبناني عبر استخدام ما يُشبه الكوميديا الساخرة في مقاربة أحوال بلد ومجتمع ممزّقين، مُعليةً شأن المرأة في الإمساك (بل في ضرورة الإمساك) بالبيئة المجتمعية، والسيطرة عليها بشتّى الوسائل، لإنقاذ الرجل من ذاته. فالمرأة، في الفيلم هذا، خلاصٌ منتظر، بينما الرجل "مصيبة" تأخذ الجميع إلى خراب لا يتوقّف إلاّ بفضل المرأة وحنكتها وجرأتها.
لا يختزل هذان النموذجان النتاج السينمائي النسائي العربي كلّه، بل يكشفان جانباً من آلية العمل السينمائيّ. جدّية الطرح الثقافي ـ الإنسانيّ للمرأة في الفيلم المغربيّ تُقابلها خفّة بصرية في التعاطي مع السينما أولاً، ومع المسائل الحياتية والاجتماعية والإنسانية ثانياً، كما هو حاصلٌ، إلى حدّ ما، في الفيلم اللبناني. لكن التركيز على/ أو اختيار المرأة شخصية أساسية في البناء الدرامي لأي صنيع سينمائي عربي لن يكون انعكاساً لنضال نسوي بحت، ولن يُشكّل لحظة تأمّل في الجانب هذا فقط من دون سواه، لأن أفلاماً عربية مُنجزة في الأعوام القليلة الفائتة على أيدي مخرجات شابات تحديداً تعكس نقيض هذا تماماً. أفلام تُخرجها شابات ملتزمات همّاً سينمائياً صرفاً يقضي، من بين أمور عديدة، التحرّر من رداءة الخطابية، والذهاب بعيداً في اختبار المدى الحيوي والإبداعي للصورة السينمائية في مقاربة المواضيع كلّها. أفلام يتمحور بعضها حول مسائل نسائية، أو يرتكز بعضها الآخر على كون المرأة شخصية محورية. لكن الأهمّ كامنٌ في أن النتاج سينمائيّ، وفي أن كمية الالتزام النسوي الجاف منعدمة، أو شبه منعدمة، أو مُصوّرة بآليات اشتغال سينمائي صرف. أفلام تنسجم وأدوات التعبير السينمائي، وتلتزم أيضاً همّاً جماليّاً ـ فنياً ـ بصريّاً كخطوة أولى وضرورية وأساسية لإنجاز صنيع سينمائي، وتطرح أسئلتها المتنوّعة من خلال نسق فني ـ درامي ـ جمالي متماسك الشكل، ومتين الصُنعة.
حيوية الصورة السينمائية
الأمثلة عديدة، بدءاً من الشابتين المصريتين نادين خان (1979) وهالة لطفي (1973). الأولى تُحقِّق "هرج ومرج" (2013)، والثانية تُنجز "الخروج للنهار" (2012). ميزات عديدة تجمع الفيلمين على مستويي الشكل والمضمون: اعتماد لغة الصورة في مقاربة الحكاية، وتحويل المونتاج إلى دفقٍ إنساني من المشاعر عبر لغة الصمت (الخروج للنهار)، أو من خلال الإمعان في تفكيك البُنى المختلفة للناس وأحوالهم (هرج ومرج). شدّة الصمت في فيلم هالة لطفي اشتغال بصريّ قادر على التوغّل عميقاً في نفوس وحالات وأحاسيس تلتزم سياقاً سينمائياً متكاملاً في سرد حكاية امرأتين (أم وابنة) تعيشان اللحظات الأخيرة من حياة رجل (زوج/ أب) ذاهب، بسبب مرضه، إلى الموت. هذا في مقابل شدّة التمعّن في أشياء الحياة اليومية لمجموعة شباب وصبايا ورجال ونساء في بقعة جغرافية واحدة (هرج ومرج)، وفي تفكيك بناها الاجتماعية والإنسانية والنفسية، عبر سرد وقائع عيشهم في هموم عامة، كالفقر والبحث عن منفذ وتنفيس الاحتقان العاطفي المعطّل، إلخ.
مخرجات لبنانيات شابات يتوجّهن، بأفلامهنّ الوثائقية تحديداً (المُنجزة في الأعوام القليلة الفائتة على الأقلّ)، إلى ذاكرة جماعية عبر قصص أفراد، رجالٍ ونساءٍ معاً. يغلب على بعض الأفلام هذه صورة الرجل (الأب)، في محاولة البحث عن معاني العلاقة الفردية به، وعن تفاصيل الماضي، وعن مسعى ما إما إلى الانقلاب عليه/ على التاريخ والذاكرة اللذين يمثّل شيئاً كبيراً منهما، وإما إلى المصالحة الإنسانية الفردية معه. إليان الراهب (1972) تضع الرجل، الأب أو المسؤول الأمني، في مواجهة المرأة، أي المخرجة نفسها بصفتها ابنة ومخرجة، أو الأم الباحثة عن أجوبة على سؤال اختفاء ابنها أثناء الحرب الأهلية. في "ليالٍ بلا نوم" (2012) مثلاً، تفتح ملف المفقودين والمخطوفين خلال الحرب اللبنانية، من خلال لقاء يجمع مسؤولاً أمنياً سابقاً في "القوات اللبنانية" (أسعد شفتري) بأم شاب مقاتل في "الحزب الشيوعي اللبناني" (مريم السعيدي). المرأة هنا امرأتان: أم تقف على التخوم القاسية لوجع لا يهدأ، ومخرجة باحثة ـ عبر الكاميرا السينمائية ـ في التباسات الراهن والماضي والعلاقات اللبنانية المعطوبة. لكنها، في "هيدا لبنان" (2008)، تواجه الرجل/ الأب في مستويات عديدة، تبدأ من علاقة كل واحد منهما بالبلد والتاريخ والمسارات السياسية ـ الثقافية ـ الاجتماعية المختلفة، وتكاد لا تنتهي عند جوهر العلاقة الملتبسة والمتوترة بين المخرجة والأب.
قراءة مختصرة عن واقع محتاج إلى نقاش نقدي أوسع وأعمق.
(كاتب لبناني)