زاد فساد بعض الأنظمة العربية الحاكمة واستشرى خلال السنوات الأخيرة، وأكبر دليل على ذلك النتيجة التي وصلنا إليها من زيادة حدة الفقر والجوع والغلاء والبطالة والجهل والأمية والأمراض والذل والتبعية للدائنين الدوليين، واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء مع سوء توزيع الدخل والثروة، وتردي البنية التحتية والخدمات والإفلاس، والاعتماد على الخارج في كل شيء، وتراجع مستوى الخدمات الصحية والتعليم داخل دول المنطقة رغم الثروات الضخمة التي تتمتع بها سواء طبيعية أو نفطية أو سياحية أو حتى بشرية.
وبات هذا الفساد لا يقتصر فقط على سرقة قوت الشعوب المغلوبة على أمرها، ومحاولة تلك النظم الحثيثة والمتواصلة نهب حتى لقمة العيش القليلة لدى المواطن، ونزع قطعة الخبز الحافية من أفواه الجوعى والتي تصل بالكاد إلى الطبقات الفقيرة والمعدمة، وإلقاء الفتات للشعوب في صورة أجور ودخول متدنية وغاية في الضعف.
ولا يقتصر فساد النخب الحاكمة كذلك على نهب ثروات البلاد التي يحكمونها طوال سنوات حكمهم، فهذا أمر بديهي ويحدث ليل نهار وتحت أعين الأجهزة الرقابية في الدولة، وأموال الحكام العرب المكدسة في بنوك العالم وفي مقدمتها البنوك السويسرية والبريطانية والعقارات والأصول والأسهم والسندات المملوكة لهم في العواصم الأوروبية والغربية أكبر دليل على ذلك.
ولا يقتصر فساد تلك الأنظمة الحاكمة على التفريط في أصول وأراضي الدولة، وبيع مصانع وشركات القطاع العام بثمن بخس وبالمجان في بعض الأحيان، وإسناد صفقات لمشروعات ضخمة وحيوية في الدولة تقدر كلفتها بمليارات الدولارات لصالح شركات عالمية بالأمر المباشر وبالمخالفة للقانون ودون إجراء مزايدات ومناقصات، وحصول كبار المسؤولين في الدولة في المقابل على رشاوى وعمولات ضخمة من المستثمرين الأجانب تحولها تلك الشركات المسند لها تلك المشروعات مباشرة إلى حساباتهم المصرفية في الخارج، وهناك عشرات الأمثلة التي تشير إلى ذلك.
والنتيجة الطبيعية لكل ذلك الفساد المستشري في معظم الدول العربية، غلاء أسعار السلع والخدمات من دون أن يقابل ذلك تحسن في الأجور والرواتب، وزيادة تكلفة المياه والكهرباء والوقود من بنزين وسولار وغاز، وتراجع الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبنية التحتية من شبكات طرق وصرف صحي وكهرباء، إضافة إلى انتشار الفساد في الأحياء والمحليات والمصالح الحكومية، وهو ما يرفع من كلفة حصول المواطن على الخدمة.
الإحصاءات الدولية تؤكد تلك النتيجة التي يلمسها كل مواطن، فقائمة الدول العشر الأكثر فساداً في العالم تضم 7 دول عربية، قبل انفصال جنوب السودان عن السودان، وهذه الدول هي: الصومال (1)، سورية (3)، اليمن (5)، السودان (6)، ليبيا (7)، العراق (10).
أما الدول الأربع الأخرى الأعلى فسادا في العالم فهي جنوب السودان (2)، أفغانستان (4)، كوريا الشمالية (8)، فنزويلا (9)، وهي دول تحكمها أنظمة قمعية.
ولا تقف حالات فساد تلك الأنظمة المستبدة في دول المنطقة عند حدود تلقي عمولات ضخمة عن صفقات الأسلحة والطائرات والقمح والأغذية الفاسدة والسمسرة في الديون الخارجية للدولة، بل يمتد هذا الفساد المستشري والمقنن أحياناً إلى نهب كل شيء، وسرقة حتى المساعدات والمنح الدولية، بل ونهب القروض الخارجية التي تحصل عليها دول المنطقة مقابل شروط وإملاءات هي أقرب إلى الاحتلال وعقود الإذعان التي تنفذها تلك السلطات بلا نقاش وتفرضها على الشعوب بقوة السلاح والقهر والتجويع.
النتيجة الطبيعية لكل ذلك الفساد المستشري في معظم الدول العربية، غلاء أسعار السلع والخدمات من دون أن يقابل ذلك تحسن في الأجور والرواتب
من بين هذه الشروط زيادة الأسعار بمعدلات قياسية، وتعويم العملة المحلية، وهو ما يؤدي لانهيارها، وخفض الدعم المقدم لسلع أساسية مثل البنزين والسولار والغاز والمياه والكهرباء، وزيادة أسعار النقل العام، والتوسع في فرض الضرائب والرسوم الحكومية.
وكلنا نذكر الفضيحة المدوية التي فجرتها نائب رئيس البنك الدولي لاقتصاديات التنمية، بيني غولدبيرغ قبل شهور، والتي استقالت من منصبها نهاية العام الماضي 2019 عقب كشفها في دراسة موثقة، عن أنَّ البنك الدولي متورط في فضيحة تحويل القروض والأموال التي يمنحها إلى الحسابات المصرفية لكبار المسؤولين في دول عربية وأجنبية، وهو ما أدى إلى تضخمها، وأن الأموال الممنوحة من البنك الدولي للدول لأغراض متصلة بتمويل مشروعات التنمية بها مثل إقامة المدارس والمستشفيات ومد شبكات الطرق ومكافحة الأمراض، يستولي النافذون في هذه الدول على جزء منها ويحوّلونها إلى حسابات في الخارج.
بل إن بيني غولدبيرغ كشفت عن وجود علاقة طردية بين الأموال والقروض الممنوحة من البنك الدولي لتلك الدول لأغراض تنموية، وتضخم حسابات المسؤولين في تلك الدول، قائلة إنَّ المبالغ التي يستولي المسؤولون في تلك الدول على جزء منها، تشكل حرجاً شديداً للبنك الدولي، ولذا لم يتم التعامل مع ما توصلت إليه بجدية.
كما كشفت وثيقة للبنك الدولي نشرت مؤخرا أن 7.5% من إجمالي المساعدات التي يتم تقديمها إلى أي دولة، "تُسرق من قبل مسؤولي تلك الدولة"، وأن المبلغ "المختلَس" يميل إلى الارتفاع مع زيادة نسبة المساعدة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
وكشف البنك في دراسة شملت أكثر من 22 دولة نامية حول العالم من بينها دولتان عربيتان هما موريتانيا والأردن، خلال الفترة الممتدة من 1990 إلى 2010، عن تحويل أكثر من 3 مليارات دولار إلى حسابات بنكية في 49 مؤسسة مالية بالخارج "أوف شور".
كما كشفت الوثيقة عن تحويل مليارات الدولارات من الأردن، وإيداعها في حسابات بنكية آمنة بالخارج، بالتزامن مع حصول المملكة على مساعدات مالية من بعض المؤسسات والجهات المانحة.
في لبنان حدث ولا حرج عن الفساد المستشري في الداخل، والنهب المنظم للمساعدات والمنح الخارجية من قبل النخبة الحاكمة والأنظمة السابقة منذ سنوات طويلة
وحسب الوثيقة الخطيرة فإن الأردن حوّل وحده أكثر من 3.13 مليارات دولار إلى حسابات مصرفية خارجية آمنة لا تخضع للضرائب، معظمها في سويسرا ولوكسمبورغ وجزر كايمان، على مدى عشر سنوات تزامنًا مع حصوله على مساعدات خارجية وارتفاع المنح الخارجية.
بل إن صحيفة The Times البريطانية أشارت يوم 19 مايو/أيار الماضي، إلى إن الأردن احتل المرتبة الأولى في قائمة الدول، التي يبدو أنها سحبت مبالغ ضخمة من المساعدات إلى حسابات مصرفية خارجية.
وفي لبنان حدث ولا حرج عن الفساد المستشري في الداخل، والنهب المنظم للمساعدات والمنح الخارجية من قبل النخبة الحاكمة والأنظمة السابقة منذ سنوات طويلة، ونظرة لقضايا الفساد التي أحالها الرئيس اللبناني ميشال عون للقضاء منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي للتحقيق فيها تؤكد ذلك، ومن بين تلك الملفات صفقات مشبوهة في مطار رفيق الحريري الدولي وهدر الأموال العمومية في قطاعات الكهرباء والصحة وصندوق التقاعد ومرفأ بيروت الذي تعرض للدمار قبل أيام وغيرها.
وهذا الفساد أدى إلى نهب ثروات الدولة وإفراغ خزانتها من الأموال، وبالتالي إضعاف فاعلية الدولة وكفاءة أجهزتها في التصدي للجرائم المالية وفقدان الثقة في النظام بالكامل وتدهور الخدمات المقدمة للمواطن، كما قاد الفساد وسوء الإدارة لبنان هذه الأيام إلى أسوأ أزمة إنسانية عرفها منذ انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990.
المشكلة الحالية التي تواجه لبنان هي أن بعض الدول والمؤسسات الدولية تريد مساعدة البلد المنكوب، لكنها تخشى أن تصل المساعدات إلى حسابات النخب الحاكمة في بنوك أوروبا بدلا من أن تصل إلى أفواه المشردين والجوعى.
وهناك 16 مليار دولار قيمة خسائر انفجار بيروت، وهو مبلغ ضخم يقصم ظهر الاقتصاد اللبناني الصغير الذي يعاني أصلا من أزمة مالية حادة، وتعثر في سداد الديون الخارجية، وتهاوي في قيمة الليرة وقفزات في أسعار السلع الأساسية
والمواطن وحده هو من يتحمل تلك الخسائر الباهظة في صورة تضخم في الأسعار، وانهيار في الخدمات العامة والبنية التحتية، إلا إذا تحرك الشعب بأكمله واسترد ثرواته المنهوبة، وأعاد مليارات الدولارات التي سرقتها النخبة الحاكمة والأنظمة السابقة على مدى سنوات طويلة وحولتها إلى أرصدتها في الخارج.