لم تكُن فلسطين يومًا ما في مركز اهتمام السلفية عمومًا، ولم تكن السلفية الجهادية استثناءً. في التسعينيات، انتشر تسجيل منسوبٌ لأحد رموز السلفية التقليدية الكبار، يدعو فيه الله أن ينصر البوسنة والهرسك وأفغانستان والشيشان. كان التسجيل متداولًا على نطاقٍ واسع. وقد كان سهلًا ملاحظةُ أن الرجل غرّب إلى البوسنة ثم شرّق إلى أفغانستان والشيشان، وتجاوز فلسطين من الوسط! كانت القضايا التي ذكرها الشيخ يجمعُها شيءٌ واحد، هو أنّ العدوّ فيها هو عدوٌّ لأميركا أيضًا، بخلاف فلسطين، والتي يكونُ العدوّ فيها بؤبؤ عين أميركا!
كانت فلسطين غائبةً عن أحاديث أكثر المشايخ السلفيين التقليديين، ودروسهم، وفتاواهم، ولم يكونوا يتذكرونها إلا بالفتاوى التي تُثير الحيرة والحنق معًا.
ولعلّ الارتباط الحتميّ بتوجُّهات وليّ الأمر وتوجيهاته يمكن أن يُفسّر بُعد السلفية التقليدية عن فلسطين، لكنّ الذي يستفزُّ الذهن فعلًا، هو بُعد السلفية الجهادية (التي تُكفّر وليّ الأمر ومن والاه) عن فلسطين! كما تلعبُ الأيدولوجيا الداعشية دورًا في هذا البُعد عن فلسطين، إذ هم دائمًا يُحبّون قتال القريب اللصيق، فالشيعي (الكافر) عندهم أخطر من اليهودي. والسني (المرتد) أخطرُ من الشيعي.
هنالك أسباب ظرفيةٌ أيضًا تجعل الجهاديين يبتعدون، منها قيامُ خصومهم الفكريين (الإخوان المسلمين) بواجب الجهاد في فلسطين، وتصدرهم لمشهد القتال هناك، فهذا يدفعهم إلى التقليل من شأن القضية، نكايةً في الخصوم، وتصغيرًا لما يقومون به.
وبقدر ما نرى فلسطين بعيدةً من اهتمام داعش والسلفية الجهادية عمومًا، فإنّها بدورها بعيدةٌ عنهم لو أرادوها، وابتغوا الدخول في ساحتها، فالشبابُ الفلسطيني الذي يرى أبواب جهادٍ حقيقيّ لا تشكيك فيه، ضدّ عدوّ دخيلٍ محتلّ، مفتوحةً أمامه، يصعبُ أن تستهويه عروض تفجير نفسه في الحواجز والمعابر والأحياء السكنية، أو الانغماس في تصفيات داخلية، لقياداتٍ مقاتلة يُفترض أن تكون في صفٍ واحد!
وقد ساعدت خصوصية المجتمع الفلسطيني في إبعاد شبح التطرّف عن أفراده، إذ كان مستوى المحافظة الدينية والقِيَمية الذي يلتزمه معظم أفراده سببًا في قطع طرق التمرّد والحقد على المجتمع، وقد لاحظ كثيرٌ من المتابعين لداعش، أن أكثر عناصرها تطرفًا وغلوًا هم العناصرُ التونسية! ولم يكن ذلك إلا تمردًا على حالة التغريب الشديدة التي تعرّض لها المجتمع التونسيّ على يد حُكّامه السابقين، وقد يكون هذا تفسيرًا لالتحاق عددٍ من مسلمي أوروبا بهذه التنظيمات، ولعلهم يرون في نشاطهم معها انتقامًا من واقعهم، ومواجهةً، طالما أجلوها معه!
ومن الزاوية ذاتها ننظرُ إلى التحاق أفرادٍ من فلسطينيي 48 بالمجموعات المقاتلة في سورية، وهؤلاء يمثلون الحالة الأكثر تراجيدية، بتركهم قتال عدوّهم المحتلّ!
لا يعني كلُّ ما سبق أن هذه التنظيمات لم تدخل قطّ الساحة الفلسطينية، أو لم تُحاول، أو لن تفعل، إنّما هي أسبابُ بعدٍ فقط، وليست تحولُ تمامًا دون ذلك.