18 نوفمبر 2024
عن مسار العدالة الانتقالية في تونس
على ديكور فقير، صمم بعناية فائقة ليخلو من البهرجة والبذخ، حتى يوضع الحاضرون كلهم في مواجهة بابين كبيرين، على اليمين وعلى اليسار لسجن حقيقي، تم التخلص منهما، بدت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، سهام بن سدرين، شاحبة مرتبكة، وهي تلقي كلمة الافتتاح يوم الجمعة الفارط، لآخر جلسة عمومية للهيئة. ولم تخف، في بداية كلمتها، أسفها لغياب ممثلي الدولة التونسية في جلسة تاريخية، إذ لم يحضر أي من الرؤساء الثلاثة (رئيس الحكومة، رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب)، الأمر الذي رأت فيه بن سدرين رسالة تفيد بأن الدولة لم تؤمن بعد بالعدالة الانتقالية، وتخالف، بشكل مستفز وفاضح، الدستور الذي نص على أن الدولة مجبرة على تطبيق مسار العدالة الانتقالية وتحقيق أهدافه.
عدّدت رئيس هيئة الحقيقة والكرامة ما اعتبرتها خصوصيات تونسية في تجربة العدالة الانتقالية، وحصرتها في خمس:
العدد الكبير للملفات، إذ بعد الفرز احتفظت الهيئة بما يفوق 65 ألف ملف تقريبا لضحايا ينتمون إلى مختلف الأجيال والعائلات السياسية والنقابية، فضلا على مناطق البلاد، علاوة على النساء اللواتي شكلن وحدهن ما يفوق ربع عدد ملفات الضحايا. الخاصية الثانية هي "المقاربة الاستماعية" التي لم تستثن الهيئة تقريبا أي ضحية، إذ عقدت ما يفوق 50 ألف جلسة استماع، وثقتها سمعيا وبصريا، أي بمعدل ساعة وربع لكل ضحية، علما أن ثمّة جلسات استغرقت أكثر من ثلاثة أيام. والخاصية الثالثة، الربط القانوني بين الفساد والاستبداد، أي بين القمع السياسي الذي مارسته مختلف الأنظمة المتعاقبة على البلاد من جهة والنهب الذي تعرضت له ثروات البلاد الشحيحة أصلا على امتداد أكثر من ستة عقود. لم يكن الربط حسب بن سدرين متعسفا فحسب، بل كان دقيقا ومحكما، إذ كان نهب البلاد وسرقتها جزءا من الاقتصاد السياسي للاستبداد، ما أدى، في النهاية، إلى ابتكار أشكال من المناولة السياسية والزبونية التي أحدثت تواطؤا وتضافرا بين النخبة السياسية وبطانتها المالية. كانت تلك النخب المالية الفاسدة تدفع ضمن تواطئها وتمول الاستبداد. أما الخاصية الرابعة لتجربة العدالة الانتقالية، فهي آلية التحكيم والمصالحة التي أقرّها قانون العدالة الانتقالية، خصوصا في ملفات الفساد المالي التي لم يرافقها قتل أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، خصوصا إذا ما أعرب هؤلاء المتهمون من استولوا على المال العام عن رغبتهم في إعادة المبالغ المنهوبة، والاعتذار وطلب الصفح. وقد استطاعت الهيئة، وبكثير من النجاعة ان تسترجع أقساطا مهمة من تلك الأموال، قبل أن تلتف الدولة على هذه الآلية، وتصدر قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي تكفلت إحدى اللجان في وزارة العدل بتنفيذه، في خرق واضع للدستور والقانون بما يشكل طعنا لمبدأ العدالة عامة، وقانون العدالة الانتقالية خصوصا، وذلك ما من شأنه أن يمنح حصانة للفاسدين، ويقدم درسا سيئا للأجيال القادمة، والتي ستجد نفسها أمام أمثلة سيئة، اقترفتها دولتهم في حق ثروات بلادهم. واعتبرت أن القضاء لن يترك هؤلاء يهنأون ما لم تسترجع تلك الأموال. وبقطع النظر عن الأموال التي استعادتها الهيئة، فإن الكنز الثمين الذي ظفرت به هو اشتغال آلة الفساد وتفكيك براغيها. الخاصية الخامسة هي مقاربة النوع الاجتماعي، ذلك أن ربع الضحايا المباشرين هم من النساء، فضلا عن آلاف النساء اللواتي عانين، بشكل غير مباشر، على غرار أمهات الضحايا وزوجاتهن علاوة على أبنائهم وبناتهن.. إلخ.
وأكدت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، أن العدالة الانتقالية، فضلا عن أنها مسار دستوري، تم التأكيد عليه، فإنها موقف وتوجه ورؤية إلى مستقبل البلاد، فهي غير معنية بالالتفات الى الماضي، فالماضي ليس إلا فرصة سانحة للتشخيص والعبرة من أجل تركيز النظر باتجاه المستقبل، ولكنها لم تخف تحفظها، خصوصا وأن الدولة التونسية لم تؤمن بالمسار، ولم تساعده، بل عملت على عرقلته، خصوصا في دوائر السلطة التنفيذية، وتحديدا وزارتي الداخلية والدفاع، اللتين ترددتا في التعاون مع الهيئة، بل أعاقتا عملها.
ويظل مسار العدالة الانتقالية خارج هذا التقييم الذاتي لرئيسة الهيئة، بن سدرين، ليس مهمة الهيئة، ولا هو أيضا مجرد واجب دستوري للكشف عن الحقيقة ومحاسبة المسؤولين على الانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال أكثر من ستة عقود، بل هو شرطٌ للسلم الأهلي الدائم، إذ لا يمكن أن يترسخ انتقالنا الديموقراطي، من دون أن نقيم أركان العدالة الانتقالية، فهي ركنه الصلب وحجر الزاوية فيه. ليست العدالة الانتقالية إحياء لضغائن الماضي، أو سكنا في الذاكرة المجروحة، بل هي محاولة لإبرام صلح متعدد الأبعاد، كما ذكرت بن سدرين: صلح البلاد مع تاريخها، بكل ما فيه من عظمة وانحدار من رفعة وانكسار، صلح المواطن مع الدولة التي ظلت، وما زالت أحيانا، خصمه اللدود وعدوه، بما نكلت به وعذبته وأهانته، وحقّرته... إنه إصلاح يلتفت إلى المستقبل، من خلال معرفة الحقيقة، ووضع حد للإفلات من العقاب، ووضع حد لتلك الحصانة الأبدية التي كان يتمتع بها الجلاد، وهو يقدم وجبات التعذيب القاتلة لضحاياه.
قد لا تكون حصيلة هيئة الحقيقة والكرامة وفيرة، بعد أكثر من أربع سنوات من العمل الشاق الذي جرى في مناخ من التوتر، وتحرّش أجهزة الدولة وأنصار النظام السابق بها، وقد عاد بعض هؤلاء في مناصب عليا. ولكن يبدو أن المسالك التي عبّدتها الهيئة للمجتمع المدني، ولنشطاء حقوق الإنسان، فضلا على الثقافة التي انتشرت، لن تسمح مجدّدا بتكرار ممنهج لانتهاكات الماضي. ستختفي هيئة الحقيقة والكرامة قريبا، بموجب القانون الذي أحدثها. ولكن يبدو أن مسار العدالة الانتقالية وروحها سيظلان حاضرين عقودا طويلة في ذاكرة الأجيال.
تختم الهيئة أعمالها في الأسابيع القليلة المقبلة، في ظل أسئلة تظل ملحةً، وملفات ما زالت مفتوحة: من سيتولى حفظ هذا الأرشيف الضخم؟ كيف سيتم الاستفادة منه؟ هل سيتم تفعيل صندوق الكرامة المعني قانونا بجبر الضرر للضحايا؟ ما مصير الجلادين الذين رفضوا الاعتذار، ولم يحضر إلا القليل منهم الجلسات القضائية؟ ما مصير إصلاح الأجهزة الأمنية حتى لا تتكرّر ممارسات الماضي؟
العدد الكبير للملفات، إذ بعد الفرز احتفظت الهيئة بما يفوق 65 ألف ملف تقريبا لضحايا ينتمون إلى مختلف الأجيال والعائلات السياسية والنقابية، فضلا على مناطق البلاد، علاوة على النساء اللواتي شكلن وحدهن ما يفوق ربع عدد ملفات الضحايا. الخاصية الثانية هي "المقاربة الاستماعية" التي لم تستثن الهيئة تقريبا أي ضحية، إذ عقدت ما يفوق 50 ألف جلسة استماع، وثقتها سمعيا وبصريا، أي بمعدل ساعة وربع لكل ضحية، علما أن ثمّة جلسات استغرقت أكثر من ثلاثة أيام. والخاصية الثالثة، الربط القانوني بين الفساد والاستبداد، أي بين القمع السياسي الذي مارسته مختلف الأنظمة المتعاقبة على البلاد من جهة والنهب الذي تعرضت له ثروات البلاد الشحيحة أصلا على امتداد أكثر من ستة عقود. لم يكن الربط حسب بن سدرين متعسفا فحسب، بل كان دقيقا ومحكما، إذ كان نهب البلاد وسرقتها جزءا من الاقتصاد السياسي للاستبداد، ما أدى، في النهاية، إلى ابتكار أشكال من المناولة السياسية والزبونية التي أحدثت تواطؤا وتضافرا بين النخبة السياسية وبطانتها المالية. كانت تلك النخب المالية الفاسدة تدفع ضمن تواطئها وتمول الاستبداد. أما الخاصية الرابعة لتجربة العدالة الانتقالية، فهي آلية التحكيم والمصالحة التي أقرّها قانون العدالة الانتقالية، خصوصا في ملفات الفساد المالي التي لم يرافقها قتل أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، خصوصا إذا ما أعرب هؤلاء المتهمون من استولوا على المال العام عن رغبتهم في إعادة المبالغ المنهوبة، والاعتذار وطلب الصفح. وقد استطاعت الهيئة، وبكثير من النجاعة ان تسترجع أقساطا مهمة من تلك الأموال، قبل أن تلتف الدولة على هذه الآلية، وتصدر قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي تكفلت إحدى اللجان في وزارة العدل بتنفيذه، في خرق واضع للدستور والقانون بما يشكل طعنا لمبدأ العدالة عامة، وقانون العدالة الانتقالية خصوصا، وذلك ما من شأنه أن يمنح حصانة للفاسدين، ويقدم درسا سيئا للأجيال القادمة، والتي ستجد نفسها أمام أمثلة سيئة، اقترفتها دولتهم في حق ثروات بلادهم. واعتبرت أن القضاء لن يترك هؤلاء يهنأون ما لم تسترجع تلك الأموال. وبقطع النظر عن الأموال التي استعادتها الهيئة، فإن الكنز الثمين الذي ظفرت به هو اشتغال آلة الفساد وتفكيك براغيها. الخاصية الخامسة هي مقاربة النوع الاجتماعي، ذلك أن ربع الضحايا المباشرين هم من النساء، فضلا عن آلاف النساء اللواتي عانين، بشكل غير مباشر، على غرار أمهات الضحايا وزوجاتهن علاوة على أبنائهم وبناتهن.. إلخ.
وأكدت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، أن العدالة الانتقالية، فضلا عن أنها مسار دستوري، تم التأكيد عليه، فإنها موقف وتوجه ورؤية إلى مستقبل البلاد، فهي غير معنية بالالتفات الى الماضي، فالماضي ليس إلا فرصة سانحة للتشخيص والعبرة من أجل تركيز النظر باتجاه المستقبل، ولكنها لم تخف تحفظها، خصوصا وأن الدولة التونسية لم تؤمن بالمسار، ولم تساعده، بل عملت على عرقلته، خصوصا في دوائر السلطة التنفيذية، وتحديدا وزارتي الداخلية والدفاع، اللتين ترددتا في التعاون مع الهيئة، بل أعاقتا عملها.
ويظل مسار العدالة الانتقالية خارج هذا التقييم الذاتي لرئيسة الهيئة، بن سدرين، ليس مهمة الهيئة، ولا هو أيضا مجرد واجب دستوري للكشف عن الحقيقة ومحاسبة المسؤولين على الانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال أكثر من ستة عقود، بل هو شرطٌ للسلم الأهلي الدائم، إذ لا يمكن أن يترسخ انتقالنا الديموقراطي، من دون أن نقيم أركان العدالة الانتقالية، فهي ركنه الصلب وحجر الزاوية فيه. ليست العدالة الانتقالية إحياء لضغائن الماضي، أو سكنا في الذاكرة المجروحة، بل هي محاولة لإبرام صلح متعدد الأبعاد، كما ذكرت بن سدرين: صلح البلاد مع تاريخها، بكل ما فيه من عظمة وانحدار من رفعة وانكسار، صلح المواطن مع الدولة التي ظلت، وما زالت أحيانا، خصمه اللدود وعدوه، بما نكلت به وعذبته وأهانته، وحقّرته... إنه إصلاح يلتفت إلى المستقبل، من خلال معرفة الحقيقة، ووضع حد للإفلات من العقاب، ووضع حد لتلك الحصانة الأبدية التي كان يتمتع بها الجلاد، وهو يقدم وجبات التعذيب القاتلة لضحاياه.
قد لا تكون حصيلة هيئة الحقيقة والكرامة وفيرة، بعد أكثر من أربع سنوات من العمل الشاق الذي جرى في مناخ من التوتر، وتحرّش أجهزة الدولة وأنصار النظام السابق بها، وقد عاد بعض هؤلاء في مناصب عليا. ولكن يبدو أن المسالك التي عبّدتها الهيئة للمجتمع المدني، ولنشطاء حقوق الإنسان، فضلا على الثقافة التي انتشرت، لن تسمح مجدّدا بتكرار ممنهج لانتهاكات الماضي. ستختفي هيئة الحقيقة والكرامة قريبا، بموجب القانون الذي أحدثها. ولكن يبدو أن مسار العدالة الانتقالية وروحها سيظلان حاضرين عقودا طويلة في ذاكرة الأجيال.
تختم الهيئة أعمالها في الأسابيع القليلة المقبلة، في ظل أسئلة تظل ملحةً، وملفات ما زالت مفتوحة: من سيتولى حفظ هذا الأرشيف الضخم؟ كيف سيتم الاستفادة منه؟ هل سيتم تفعيل صندوق الكرامة المعني قانونا بجبر الضرر للضحايا؟ ما مصير الجلادين الذين رفضوا الاعتذار، ولم يحضر إلا القليل منهم الجلسات القضائية؟ ما مصير إصلاح الأجهزة الأمنية حتى لا تتكرّر ممارسات الماضي؟