30 أكتوبر 2024
عن وطن في "صالة إنعاش"
ثمة شجن شخصي عشته الأسبوع كله، وأنا أتنقل بين أسرّة "صالة إنعاش"، في مدينة غريبة، على الحافات الشمالية لأقصى جنوب العالم، مستعيداً تجربة أمل دنقل، "لون المعاطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات، ولون الأسرة، أربطة الشاش والقطن، قرص المنوم، أنبوبة المصل، كوب اللبن،" كل هذا البياض أشاع في قلبي الوهن، لكنه أيضاً منحني جرعة أمل في أن الحال لن يستقر على مآل، والدنيا تتغير لحظة توهمنا أنها استقرت.
أقف أمام محنة زوجتي، رفيقة عمري ستة وأربعين عاماً، أرهقت أعصابها الغربة القاتلة، والحنين إلى وطن دونه محيطات وبحور، هي مجروحة في قلبها، وهو مثلها مجروح في قلبه، يعكف أكثر من حكيم على مداراتها ومداواتها، فيما لا يجد الوطن من يعكف على مداراته ومداواته، ظلت تستذكر محن أهلنا هناك، الذين ينزفون على الطرقات، الذين تنهال على رؤوسهم براميل الإخوة الأعداء، الذين تقصفهم طائرات الحقد والجريمة، الذين يغتالهم رصاص الكواتم، الذين تقتلهم العبوات، الذين يغرقون في مياه المحيطات، الذين يولدون ساعة رحيل أمهاتهم، الذين يبحثون عن كسرة خبز أو رشفة ماء أو حبة دواء، محن، محن، محن، ثم كان أن سقطت صريعة محنتها.
خرج الحكيم ليعطينا خبرها، وعلى شفتيه ابتسامة مصنوعة، يفضح شحوبها الأسى الذي يضمه في قلبه، "عجز الطب، لكننا لم نفقد الأمل، الله وحده يمنح السكينة، ننتظر رحمة الله"، تخطر في ذهني كلمات الله، "اذهبوا، فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله". يسترسل الحكيم، "تضرعوا إلى الله من أجل كل العالم، اغمروا أنفسكم في رحمته، وقروها، ومجدوها"، يرفع يديه بالدعاء، من أجل رفيقة عمري، ومن أجل كل المهمومين في العالم، يشاركه من معه من مساعدين وممرضين وممرضات، يرفعون ويرفعن أيديهم وأيديهن إلى السماء بالدعاء، والصلاة كل على طريقته. إنهم يعرفون بأسمائهم فقط، لا بمذاهبهم، ولا بأعراقهم، ولا بقبائلهم، هم من شعوب تشبهنا ولا تشبهنا، دساتيرهم تحرم التمييز، وقلوبهم تحث على المحبة، وعقولهم تحض على الوحدة.
مرة ثانية، كسر الحكيم رتابة الصمت القاتل، قال لنا: "كان عليكم أن تحجبوا عنها أخبار الوطن، أخياركم غريقة في الدم، والدم يستنفر الدم". الحكيم يهذي، كيف يمكن للمرء أن يقطع شريان قلبه بيده؟ هل يمكن للمرء أن يحيا بلا قلب، بلا وطن؟
الوطن عالق في البال، محنة رفيقة عمري الجريحة هي محنة الوطن الجريح الذي يتناسل محناً كل ساعة. كل شيء يبدو قريبا منها، تعيشه بعقلها وقلبها، ثلاثة ملايين ومئتا مشرد ونازح منتشرون في أرجاء البلاد. ضعفهم هاجروا، أو هجّروا، واستوطنوا أصقاعاً بعيدة، أربعة ملايين من الأطفال في سن الدراسة انقطعوا عن تلقي العلم، بسبب الأوضاع الكارثية التي سببها حكامهم. قرابة عشرة آلاف قتيل وخمسة عشر ألف جريح في الشهور التسعة الأخيرة. ثمانية وعشرون ألف أسرة عراقية فقدت في عام الزوج أو أحد الأبناء. آلاف من النازحين عادوا إلى منازلهم وطردوا منها ثانية. يرفع "داعش"، منذ أكثر من عام، علمه على ثلث مساحة البلاد، ويستعد لالتهام الباقي، يساعده بعض أبنائها، هل هم أبناؤها حقاً؟ مليشيات سوداء تتسيد وتتسلط في الهواء الطلق، وتنشر الموت من دون حسيب. عشائر لها جيوشها ومحاكمها وسجونها، تحكم وتقاضي وتعتقل. برلمان يأخذ ولا يعطي، وليس له من أمر الناس شيء. حكومة تبرر ولا تقرر. وزارات تباع في المزاد لمن يدفع أكثر. وكتل وأحزاب ومرجعيات مذهبية وسياسية تتبارى في نهب ثروة الوطن وسلب حرية المواطن. دولة لا تمتلك من مقومات السيادة ما يعطيها هذه الصفة. ودول تتناوب على اغتصابها وإخضاعها. واقع معتم لا يملك العراقيون في مواجهته سوى الثبات والصمود، والصلاة من أجل أن لا يموت الوطن، والأوطان مثل البشر لا تعرف متى تموت، وهي إلى آخر لحظة تفكر في الحياة.
عجزت السياسة أن تفعل لنا شيئاً، وغلبنا الوجع مما نشاهده ونعيشه، لكننا، مثل الحكيم، لم نفقد الأمل بعد، وننتظر معجزة من نوع ما تعيد لنا صوابنا، وتقنعنا أن الدنيا بخير، وتستأهل أن نحيا فيها، ونحتفي بها. ولنا يقيننا في أن الله وحده القادر على أن يخرج وطننا من "صالة الإنعاش" معافى مما لحقه من كدمات وندوب.
أقف أمام محنة زوجتي، رفيقة عمري ستة وأربعين عاماً، أرهقت أعصابها الغربة القاتلة، والحنين إلى وطن دونه محيطات وبحور، هي مجروحة في قلبها، وهو مثلها مجروح في قلبه، يعكف أكثر من حكيم على مداراتها ومداواتها، فيما لا يجد الوطن من يعكف على مداراته ومداواته، ظلت تستذكر محن أهلنا هناك، الذين ينزفون على الطرقات، الذين تنهال على رؤوسهم براميل الإخوة الأعداء، الذين تقصفهم طائرات الحقد والجريمة، الذين يغتالهم رصاص الكواتم، الذين تقتلهم العبوات، الذين يغرقون في مياه المحيطات، الذين يولدون ساعة رحيل أمهاتهم، الذين يبحثون عن كسرة خبز أو رشفة ماء أو حبة دواء، محن، محن، محن، ثم كان أن سقطت صريعة محنتها.
خرج الحكيم ليعطينا خبرها، وعلى شفتيه ابتسامة مصنوعة، يفضح شحوبها الأسى الذي يضمه في قلبه، "عجز الطب، لكننا لم نفقد الأمل، الله وحده يمنح السكينة، ننتظر رحمة الله"، تخطر في ذهني كلمات الله، "اذهبوا، فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله". يسترسل الحكيم، "تضرعوا إلى الله من أجل كل العالم، اغمروا أنفسكم في رحمته، وقروها، ومجدوها"، يرفع يديه بالدعاء، من أجل رفيقة عمري، ومن أجل كل المهمومين في العالم، يشاركه من معه من مساعدين وممرضين وممرضات، يرفعون ويرفعن أيديهم وأيديهن إلى السماء بالدعاء، والصلاة كل على طريقته. إنهم يعرفون بأسمائهم فقط، لا بمذاهبهم، ولا بأعراقهم، ولا بقبائلهم، هم من شعوب تشبهنا ولا تشبهنا، دساتيرهم تحرم التمييز، وقلوبهم تحث على المحبة، وعقولهم تحض على الوحدة.
مرة ثانية، كسر الحكيم رتابة الصمت القاتل، قال لنا: "كان عليكم أن تحجبوا عنها أخبار الوطن، أخياركم غريقة في الدم، والدم يستنفر الدم". الحكيم يهذي، كيف يمكن للمرء أن يقطع شريان قلبه بيده؟ هل يمكن للمرء أن يحيا بلا قلب، بلا وطن؟
الوطن عالق في البال، محنة رفيقة عمري الجريحة هي محنة الوطن الجريح الذي يتناسل محناً كل ساعة. كل شيء يبدو قريبا منها، تعيشه بعقلها وقلبها، ثلاثة ملايين ومئتا مشرد ونازح منتشرون في أرجاء البلاد. ضعفهم هاجروا، أو هجّروا، واستوطنوا أصقاعاً بعيدة، أربعة ملايين من الأطفال في سن الدراسة انقطعوا عن تلقي العلم، بسبب الأوضاع الكارثية التي سببها حكامهم. قرابة عشرة آلاف قتيل وخمسة عشر ألف جريح في الشهور التسعة الأخيرة. ثمانية وعشرون ألف أسرة عراقية فقدت في عام الزوج أو أحد الأبناء. آلاف من النازحين عادوا إلى منازلهم وطردوا منها ثانية. يرفع "داعش"، منذ أكثر من عام، علمه على ثلث مساحة البلاد، ويستعد لالتهام الباقي، يساعده بعض أبنائها، هل هم أبناؤها حقاً؟ مليشيات سوداء تتسيد وتتسلط في الهواء الطلق، وتنشر الموت من دون حسيب. عشائر لها جيوشها ومحاكمها وسجونها، تحكم وتقاضي وتعتقل. برلمان يأخذ ولا يعطي، وليس له من أمر الناس شيء. حكومة تبرر ولا تقرر. وزارات تباع في المزاد لمن يدفع أكثر. وكتل وأحزاب ومرجعيات مذهبية وسياسية تتبارى في نهب ثروة الوطن وسلب حرية المواطن. دولة لا تمتلك من مقومات السيادة ما يعطيها هذه الصفة. ودول تتناوب على اغتصابها وإخضاعها. واقع معتم لا يملك العراقيون في مواجهته سوى الثبات والصمود، والصلاة من أجل أن لا يموت الوطن، والأوطان مثل البشر لا تعرف متى تموت، وهي إلى آخر لحظة تفكر في الحياة.
عجزت السياسة أن تفعل لنا شيئاً، وغلبنا الوجع مما نشاهده ونعيشه، لكننا، مثل الحكيم، لم نفقد الأمل بعد، وننتظر معجزة من نوع ما تعيد لنا صوابنا، وتقنعنا أن الدنيا بخير، وتستأهل أن نحيا فيها، ونحتفي بها. ولنا يقيننا في أن الله وحده القادر على أن يخرج وطننا من "صالة الإنعاش" معافى مما لحقه من كدمات وندوب.