تضاربت روايتا التحالف الدولي، الذي تقوده أميركا، والنظام السوري، حول ما جرى في عمق البادية السورية، مساء أول من أمس الأحد. فبينما تحدث النظام عن استهداف التحالف الدولي لقواته بالقرب من تدمر، نفى التحالف ذلك، مؤكداً أنه استهدف قيادياً في تنظيم "داعش"، فيما تؤكد مصادر في المعارضة السورية وأخرى محلية أن قوات النظام تجاوزت الخطوط "الحمراء" الأميركية في "منطقة الـ55" حول التنف، في محاولة لاختبار الجدية الأميركية فجوبهت برد قاس. وجاءت العملية في خضم قلق روسي من محاولات أميركية، لم تعد خافية، للهيمنة على شرقي نهر الفرات اعتماداً على القوات الكردية الموالية لواشنطن.
وذكرت وكالة "سانا" التابعة للنظام أن قوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، قصفت، مساء الأحد، مواقع تابعة لقوات النظام في جبل "الغراب"، جنوب منطقة السخنة، بالقرب من مدينة تدمر بريف حمص الشرقي في قلب البادية السورية. وزعمت، وفق مصدر عسكري، أن الأضرار جراء هذا الهجوم "اقتصرت على الماديات". لكن التحالف الدولي نفى قصفه مواقع لقوات النظام بريف حمص، مؤكداً أنه قصف مواقع لتنظيم "داعش" في البادية السورية. وقال الناطق باسم التحالف الدولي، الكولونيل شون رايان، إن غارة جوية نفذتها طائرات التحالف تمكنت من قتل قيادي بتنظيم "داعش" في سورية، يدعى "أبو العمرين"، وكذلك عدد من الأعضاء الآخرين في التنظيم، في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الحالي في صحراء البادية السورية. وقال التحالف الدولي إن "أبو العمرين كان يشكل تهديداً وشيكاً لقوات التحالف، وهو متورط في قتل المواطن الأميركي بيتر كاسيغ، في العام 2014، وأن أبو العمرين نفذ عمليات إعدام سجناء آخرين، وهو عضو كبير في تنظيم داعش"، مؤكداً أن الغارات الجوية لقوات التحالف لا تزال تشل حركة قيادة "داعش" في ساحة المعركة.
من جهتها، نقلت وسائل إعلام سورية معارضة عن مصادر محلية قولها إن قوات التحالف الدولي، المتمركزة في قاعدة التنف، استهدفت رتلاً عسكرياً تابعاً لـ"الفرقة الثالثة" التابعة لقوات النظام بصواريخ راجمة من منظومة "هيمارس"، بعد دخوله إلى منطقة الـ55 كيلومتراً التي توجد فيها قاعدة عسكرية للتحالف الدولي. وذكر "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أن قوات أميركية في قاعدة التنف أطلقت 15 صاروخاً على قافلة لقوات النظام "ضلت طريقها في المنطقة". وكان التحالف الدولي قد حوّل منطقة التنف السورية إلى قاعدة عسكرية تضم جنوداً أميركيين وبريطانيين، بالإضافة إلى مقاتلي فصيل "جيش مغاوير الثورة" التابع للجيش السوري الحر. وكان التحالف قد حذر قوات النظام من الاقتراب من قاعدة التنف العسكرية، معتبراً أن المنطقة المحيطة بالقاعدة على مسافة 55 كيلومتراً "محرمة" على هذه القوات، التي ستواجه عواقب وخيمة في حال تجاوزها. وتقع قاعدة التنف غرب الحدود العراقية بمسافة 22 كيلومتراً، وتبعد نحو 22 كيلومتراً عن الحدود السورية الأردنية. وأكدت مصادر في المعارضة السورية، لـ"العربي الجديد"، أن قوات تابعة للتحالف الدولي قامت، بالاشتراك مع مقاتلين من المعارضة السورية، الأحد، بعملية ضد قوات النظام ومليشيات إيرانية موالية لها في منطقة الزكف بالقرب من التنف، مشيرة إلى أنه لا توجد معلومات عن عدد القتلى والمصابين في صفوف قوات النظام. وكان طيران التحالف الدولي قد سحق في مايو/ أيار العام 2017 رتلاً لمليشيات إيرانية حاول التقدم باتجاه قاعدة التنف العسكرية، حيث قتل العشرات من عناصر هذا الرتل، بالإضافة إلى تدمير دبابات وعربتي "شيلكا" و"فوزديكا"، وراجمة صواريخ "غراد"، وثلاث ناقلات جند، وعدد من الآليات المدنية المحملة برشاشات ثقيلة.
وتشكل البادية السورية نحو نصف مساحة البلاد، وتتوزع السيطرة فيها بين مختلف قوى الصراع في سورية، من نظام ومليشيات إيرانية، بالإضافة إلى وجود روسي فاعل في مدينة تدمر. كما أن تنظيم "داعش" يملك خلايا متحركة في البادية المترامية الأطراف. وتؤكد حادثة قصف التحالف أن أميركا حددت جغرافيا مناطق نفوذها في سورية، وهي منطقة التنف على الحدود السورية العراقية والقريبة أيضاً من الحدود الأردنية، بالإضافة إلى شرقي الفرات التي تشكل أكثر من ربع مساحة سورية. ويبدو أن النظام حاول اختبار الجدية الأميركية في الدفاع عن مناطق نفوذها، لكنه جوبه برد قاس من التحالف الدولي. وتعد قاعدة التنف، التي أقيمت في العام 2016، من أهم القواعد الأميركية في سورية، وهي تشكل عائقاً أمام تحقيق مخطط إيراني يقوم على فتح ممر بري من إيران إلى لبنان عبر العراق وسورية.
إلى ذلك، رفعت موسكو صوتها اعتراضاً على توجه أميركي واضح للهيمنة المطلقة على منطقة شرقي الفرات اعتماداً على الوحدات الكردية، إذ انتقد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أول من أمس، تصرفات واشنطن في شرق الفرات السوري، معتبراً أن هذه التصرفات تمثل انتهاكاً سافراً لمبدأ وحدة الأراضي السورية. وقال لافروف، في مقابلة تلفزيونية، إن "ما يحدث على الضفة الشرقية لنهر الفرات غير مقبول"، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة "تحاول أن تنشئ هناك مؤسسات حكومية بديلة، وتخصص مئات الملايين من الدولارات لإعادة إعمار هذه المناطق، لكنها في الوقت ذاته ترفض إعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية". وأشار إلى أن أحد عناصر السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة في سورية هو "اللعب بالورقة الكردية"، معتبراً ذلك "لعبة خطيرة جداً، نظرا لحساسية المسألة الكردية بالنسبة لعدد من دول المنطقة. أي ليس بالنسبة لسورية فقط، بل وبالنسبة للعراق، وإيران، وتركيا بطبيعة الحال".
ويأتي التحذير الروسي من اللعب "بالورقة" الكردية في الوقت الذي تواصل فيه الولايات المتحدة دعم "وحدات حماية الشعب" الكردية، التي باتت الذراع العسكري لها في سورية، خصوصاً في مواجهة تنظيم "داعش" في ريف دير الزور الشرقي، الواقع ضمن ما بات يعرف إعلامياً بشرقي الفرات. وتستغل قوى كردية سورية، وأبرزها "وحدات حماية الشعب"، الدعم الأميركي لها، في ترسيخ مبدأ "الإدارة الذاتية" في مناطق سيطرتها شرقي الفرات، وهو ما يعزز المخاوف من نوايا واشنطن تشكيل إقليم ذي صبغة كردية في المنطقة، ما يمهد الطريق أمام تقسيم سورية، وهو ما من شأنه دفع الصراع في هذا البلد إلى مستويات خطيرة. وتشهد العلاقات الأميركية التركية فتوراً كبيراً على خلفية دعم واشنطن للوحدات الكردية في منطقة شرقي نهر الفرات، إذ لم يستجب الأميركيون لطلبات الأتراك المتكررة بالتخلي عن هذا الفصيل الكردي. وتؤكد تصريحات لافروف خشية الروس من تغيّر قواعد اللعبة في الشرق السوري الغني بالثروات لصالح الأميركيين، الذين ينسجون بهدوء خيوط بقاء طويل الأمد في هذا الشرق المقبل على تحولات كبيرة. وربما تأجيل حسم المعركة مع "داعش" في ريف دير الزور الشرقي يأتي في سياق استراتيجية أميركية ترمي إلى ترتيب أوراق مرحلة ما بعد التنظيم الذي كان مدخلاً واسعاً لمعظم القوى الإقليمية والدولية للولوج في الملف السوري.