"في البداية، وأوّلاً، كانت الفوضى..."، تُنسَب هذه العبارة إلى الشاعر اليوناني هسيودوس (القرن الثامن قبل الميلاد)، إلّا أن هناك دائماً، عبر كل التاريخ الإنساني، من يحاول تفسير، وبالتالي ترتيب، جزءٍ من هذه الفوضى، وجعلها بمتناول الجميع.
ذلك تحديداً هو ما فعله الفيزيائي الإيطالي غويدو تونيللي (1950) في كتابه "سفر التكوين: القصّة العظيمة للأصول" (منشورات فيلترينيللي، 2019)، يروي فيه بأسلوب شائق تاريخ الأرض منذ نشأتها: الانفجار الكبير، والأنوار التي أضاءت الظلام البدائي، والنجوم، وفي النهاية الإنسان، من زمن رجل نياندرتال إلى الفلاسفة اليونانيّين.
العملُ روايةٌ علمية تعبّر عن المفاهيم المعقّدة بطريقة واضحة وبسيطة، وذلك بفضل الحكايات والقصص والإشارات إلى الأساطير الإغريقية، فكما يقول الكاتب: "لا توجد حضارة، صغيرة كانت أم كبيرة، يمكنها أن تقف على قدميها بدون القصّة العظيمة للأصول، أو البدايات".
أصل الكون، في كتاب "سفر التكوين"، الذي تربّع فور صدوره في بداية هذا العام على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، هو قصّة علمية كُتبت لتتيح الفرصة للجميع ليستوعبوا بطريقة سهلة قصّة التكوين العظيمة التي يعلّمنا إياها العلم الحديث، ففي النهاية، هي قصّتنا الخاصة، ويجدر بنا أن نفهم جذورها بشكل أعمق لنتمكّن من العثور على أفكار جديدة لمواجهة المستقبل. هذا هو هدف تونيللي، العالم الفيزيائي ورئيس مجموعة الباحثين في واحدة من التجربتَين الأساسيتَين في مصادم سرن في جنيف، لاكتشاف "بوزون هيدجز"، وهو جُسَيْم أوّلي يُعتقد أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها.
"لقد تزامنت كلُّ نقطة من كلّ واحد منّا، مع كلّ نقطة من النقاط الأخرى، في نقطة واحدة تزامن فيها الجميع"، هكذا يصف إيتالو كالفينو الكونَ في مجموعته القصصية "الكونيات الهزلية"، وهي قصص ومفارقات تتعلّق بالكون وتطوُّر الزمن والفضاء. وليس من أُطلق على تونيللي لقب "النموذج الأخير" من ذلك التقليد الاستثنائي الإيطالي الذي بدأ مع غاليليو غاليلي، ليتواصل بعد ذلك من خلال علماء مثل إنريكو فيرمي، وبرونو بونتيكورفو، وكارلو روبيا.
وليس من قبيل الصدفة أن يستشهد بكاتب بارز مثل كالفينو، بينما يروي كيف أنه "من تلك النقطة التي تزامن فيها الجميع" ، تطوّر الكون الهائل؛ حيث جميعنا لا نشكّل فيه أكثر بقليل من جزيئات صغيرة، ولكننا قادرون على التفكير والكتابة. إن العلم قصّة رائعة، لأن "البحث هو المعرفة والقدرة على إنتاج الأدوات والأشياء والآلات".
علاوة على ذلك، تمنحك القصة العظيمة لأصل التكوين القوّة للنهوض عندما تكون محبطاً، مما يوفر حوافز لتحمل أحلك لحظات اليأس، لأننا أمام قصة عمرها 13.8 مليار سنة. يقول تونيللي بهذا الصدد: "إنّ ربط أنفسنا في سلسلة طويلة من الأحداث، مترسّخة الجذور في الماضي البعيد، يتيح لنا تخيُّل المستقبل". ولهذا السبب "ما زلنا هنا، منذ آلاف الأجيال، لمنح قيمة للفن والفلسفة والعلوم، ولأننا ورثة هذا الانتقاء الطبيعي. يتمتّع الأفراد والمجموعات الأكثر قدرة على تطوير عالم رمزي، بميزة تطوُّرية كبيرة، ونحن ننتمي إلى ذلك النسل".
من جهة أخرى، يلقي تونيللي أيضاً الضوء على البرامج "متعدّدة التخصصات" التي يعمل فيها "الآلاف من العلماء"، والتي تهدف إلى فهم دماغ هذا "الإنسان العاقل" القادر على دراسة كيفية تشكّل المجرّات والنجوم والكواكب، بما في ذلك كوكب الأرض وتابعه القمر. وفي حالات مختلفة "لفهم بعض الآليات الأساسية التي تنتجها شبكات المحاكاة الإلكترونية للخلايا العصبية وتفاعلاتها".
لكن تونيللي يؤكّد في نفس الوقت، أنه من بين علماء الأعصاب أنفسهم، أصبح استخدام المعرفة المكتسبة للحصول على دماغ اصطناعي، أقلّ شعبية اليوم أكثر من أي وقت مضى. إنها ليست مجرّد مسألة صعوبات تقنية ومادية كبيرة، إنما "حتى لو استطعنا بناء جهاز إلكتروني يعيد إنتاج بنية عقولنا بالضبط، فلا يزال يفتقر إلى عنصر أساسي، ألا وهو التفاعل مع العقول البشرية الأخرى، بواسطة اللغة والجسد والعلاقات العاطفية".
ومن خلال هذا الأساطير والرموز، يخبرنا تونيللي أننا نبسّط الأمور كثيراً عندما نعتقد بأننا نولد بشراً فقط بسبب العوامل الفيزيائية والبيولوجية التي تسمح بدخولنا إلى العالم، إنما بدلاً من ذلك، "يصبح المرء إنساناً في عيون الآخرين عبر تبادل المشاعر والتفاعل معهم في ما يتعلّق بنا في المجموعة الاجتماعية".
وفي مكان آخر، يخاطب الأشخاص ممن يمارسون فن رواية القصص، أو الكتّاب بشكل عام، قائلاً: "أولئك الذين يستمعون ويتخيّلون، يعيشون التجارب المتراكمة لمن سبقهم؛ فالقصّة تكثّف التعاليم التي تمّ جمعها عبر سلسلة طويلة من الأجيال التي سبقتنا، تتيح لنا أن نفهم ونجرّب، وتسمح لنا أن نعيش حيوات كثيرة. لذلك، فإن ما ننجزه ونفعله في حياتنا اليومية، ليس مجرّد مسألة بقاء، بل مسألة وجود أفضل، حتى في الحالات الأكثر مأساوية".
وفي خاتمة كتابه، يستنكر تونيللي "المراحل البعيدة" من تاريخنا التي شهدت الكثير من الحروب والمجازر المروّعة، عبر أمثلة كثيرة، منها على الأخص محاكم التفتيش وعمليات الإبادة الجماعية في كثير من بقاع العالم، التي كان يمكن للبشرية أن تكون بغنى عنها. ومن
هنا، كان ثمّة من تساءل بعد صدور هذا الكتاب: هل سيكون العلم هو المنقذ بدلاً من الأدب؟ وربما هذا السؤال بالضبط، هو ما دفع تونيللي لتأليف كتابه هذا ومنحه عنوان "سفر التكوين"، حتى يتمكّن أي شخص من أن يؤلّف كتابه الخاص عن القصّة العظيمة لوجودنا التي يشرحها لنا العلم الحديث بطريقة شائقة، وإيجاد الأفكار التي تسمح لنا بمواجهة المستقبل بثقة أكبر.