استمع إلى الملخص
- يسلط الضوء على دور كاداريه في الأوساط الثقافية الألبانية، واستخدامه للترميز في أعماله للتعبير عن مواقفه السياسية، وكيف ساهم النظام في تسويق أعماله دولياً.
- يبرز التشابه بين كاداريه وميلان كونديرا في علاقتهما بالنظم الشمولية، وسعي كاداريه لإعادة بناء صورته كضحية بعد مغادرته ألبانيا.
كتاب الأكاديمي والمؤرّخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط "إسماعيل كاداريه: مجاورة الدكتاتورية والعالمية، مقاربات في الأصل والواقع المترجَم" بحثٌ يسعى لاستيضاح العلاقة بين الدكتاتورية والعالمية عبر نقاش فرضية تأثير موقف الروائي الألباني إسماعيل كاداريه (1936 - 2024) من النظام الشمولي في بلده وعلاقته الغامضة مع رأس النظام أنور خوجا (1908 - 1985)؛ في استقبال "نوبل للأدب" له، مع وصفه بـ المرشّح المُزمن للجائزة منذ عام 1978.
الكتاب الصادر حديثاً عن دار "مرفأ للثقافة والنشر" في بيروت، يبحث أيضاً هذهِ الفرضية في الأوساط الثقافية داخل ألبانيا، في دوائر النظام ولدى معارضيه. ثمّ في أدب كادرايه نفسه سواء باختياره موضوعات رواياته، أو باستخدام الترميز، والاستعانة بما يعرضه الأدب بين السطور لما لا يستطيع الكاتب قوله بكلمات واضحة في المتن. وذلك بحكم إقامة كاداريه في ألبانيا، مع الإشارة إلى امتلاكه حقّ حرّية السفر، على عكس زملائه الكُتّاب الذين قضوا في السجون. أكثر من هذا، كان نظام خوجا يدفع لتسويق أعمال كاداريه في اللغات الأجنبية. وممّا يذكره الكتاب في هذا السياق حديث الروائي المصري يوسف القعيد عن لقاء جمعه بالسفير الألباني في مصر منتصف الثمانينيات، وطلب السفير منه اقتراح أسماء مترجمين لترجمة كاتب ألبانيا إسماعيل كاداريه إلى العربية، وبتعبير السفير: "الزعيم أنور خوجا له اهتمام بنتاجه الروائي، ويتصوّر أن رواياته يمكن أن تصل إلى العالمية".
رغم ارتباطه بنظام بلاده صدّر نفسه للغرب كـ"ضحية"
إلا أنَّ أمراً في سياق كل كاتب، هو ما يُحدّد مصير أعماله، والشكل الذي يراه فيه القرَّاء ويستقرّ في أذهانهم عنه، أظن هذا الأمر يأتي من خصوصية الكاتب بمجمل مواقفه، وخصوصية أعماله الفنية نفسها أولاً. إلا أنَّ الصورة التي يصنعها أحدٌ عن كاتب ما، لا تأتي فقط من أعماله، بل من الطريقة التي يصدّر فيها نفسه، إلى جانب مواقفه من قضايا عصره. ونستطيع تجنُّب وصف كاداريه بالمتناقض، خاصة أنَّ بحث الأرناؤوط لا يسعى إلى إدانته، إنما كان صاحب موقف مُركّب شديد التعقيد، ويصعب فهمه خارج سياقه؛ بهويته الألبانية وبطبيعة النظام الرهيب الذي عاش في ظلّه.
كاداريه تُرجِمَ بكثرة إلى العربية مع وجود عدّة ترجمات في عدّة بلدان للرواية نفسها، إلا أنَّه لم يزُر البلدان العربية على الرغم من دعوته المتكرّرة. حتى إنَّه عندما زار المنطقة العربية؛ جاء زائراً لسرطان هذه المنطقة، للكيان الدخيل على النسيج العربي. من غير أن يسعى المقال إلى ربط موقفه من كيان الاحتلال بموقفه من النظام الشمولي في بلده. ببساطة لأنَّ كاداريه كان ينظر إلى "إسرائيل" من موقعه، لا من زاويتنا نحن. لكن أذكر هذا التقارب في الموقف على سبيل لعنةٍ خفيةٍ أحاقت بكاداريه منعت عنه "جائزة نوبل"، كما زعم خصومه، أو بصورة أدقّ؛ ضحاياه. وجعلت استقباله لدى القارئ استقبالاً مشكوكاً بنزاهة قائله. ويسجّل الكتاب صمت كاداريه عن اعتقال زملائه والتنكيل بهم، ويسجّل أنَّ كاداريه لم يكن يتوانى عن تلفيق شائعة كي يؤذي كاتباً آخر. وكان النظام يعتمد على الكتبة أو الكُتّاب لتشويه سمعة الكُتّاب الكبار ممّن يشك بولائهم المطلق له.
تقاطعات عديدة تذكّر القارئ بالكاتب التشيكي ميلان كونديرا (1929 - 2023)، ليست الجائزة الإسرائيلية "جائزة أورشليم" التي حصل عليها كلاهما (كونديرا عام 1985، وكاداريه عام 2015). لكن أسوة بكاداريه؛ شاعت مقولة عن ارتباط كونديرا بالنظام الشيوعي في بلده ووشايته برفاقه، شائعة منعت عنه "جائزة نوبل" من جهة، كما يُقال، وأخّرت تصالحه مع التشيك بلده.
شكّل مع أنور خوجا ثنائية نفعية قوامها السلطة والنجومية
أيضاً كاداريه سيخرج من بلده، إلا أن موقفه أكثر انتهازية من موقف كونديرا؛ فكاداريه قفز من "السفينة الغارقة" وسافر إلى فرنسا، حيث بدأ انتشاره العالمي بصورة تناقض جهد السنوات السابقة، كلها، بما فيها جهود نظام خوجا لتصدير الكاتب. حتى لكأنَّ جهود كاداريه منذ خروجه من ألبانيا، كانت لهدم ما بناه بمعونة نظام خوجا، أو البناء عليه بناءً يدين النظام القمعي بالتركيز على نفسه كـ"ضحية" للنظام السابق، كما أخذ يبحث عن مكانة لألبانيا داخل الثقافة المسيحية الأوروبية، ويعطي اعتباراً أقلّ لأكثريتها المسلمة.
الكتاب بجهود الأرناؤوط جردة حساب مع ذاكرة هذا الكاتب. وفي مواقع كثيرة يستنتج القارئ أن كاداريه وضع الأدب فوق كل ميزان، الأمر الذي أودى به في مسالك بدا أنَّ كاداريه لم يأخذ لها الاعتبار الذي كان يأخذه للأدب. ربما ما كان يعانيه ليست الدكتاتورية، ولا الصراعات الرهيبة التي تدفع المبدعين إلى خوضها مع أنفسهم، وضدّ أنفسهم، وهُم في عهدة أنظمةٍ صمَّاء، شديدة الرقابة، ومأخوذة بالصوت الواحد. أخالُ أنَّ ما كان يعانيه؛ انتهازية الأديب الذي باعَ روحه لشيطان الكتابة.
إذاً، الكتاب بحثٌ في علاقة الأدب بالسلطة، وإن كان بالإمكان الإبداع في ظل تحكّم الأيديولوجيا. وكان على كاداريه الاختيار؛ إما الإبداع مع عدم التنازل والذهاب إلى السجن، أو الإبداع مع بعض التنازل والاستمرار في "العطاء للشعب". خيار كاداريه كان واضحاً بالكتابة مع التنازل للسلطة، وهو في الحقيقة ليس تنازلاً بقدر ما هو احتيال، بكتابته نوعين؛ نوع نشره في عهدة خوجا، ونوع نشره بعد انهيار النظام. وكان كاداريه يستغلّ رؤية خوجا فيه ما يحبّه وينقصه، وهو الأدب. كما رأى كاداريه في خوجا ما أحبّه ونقصه، وهو السلطة والنجومية.
يستقبل القارئ أفكار الكتاب في عصرٍ يضغط على الكاتب، لأن يكون لديه موقف جذري من قضايا عصره. وإن كان كونديرا وكاداريه هما الحالتان الأوضح في النظم الشمولية التي أتاح انهيارها الحديثَ عن العلاقة المعقّدة التي بدا أنَّ أحد طرفيها كان يقضم الآخر. إلا أنَّ أنظمة شمولية ما تزال قائمة تمنع هذا الكشف الذي يدفع إلى التصالح وإنصاف الذاكرة. ويغيب هذا الكشف عن الثقافة العربية، ليس لعلّة في المشتغلين في الثقافة، إنّما لعلّة في الأمل؛ أمل أن يكون المرء نفسه، بالفعل، في وطنه.
* روائي من سورية