مسلسل "داعش" استفاد من مواصفات الأعمال التلفزيونية عموماً ومن الافكار التي تطرحها، فأخذ من كل فن خبرة، من ذلك مكونات الدراما التلفزيونية "الصابونية" التي لا تنتهي في موسم أو اثنين وتظل تحمل مفاجآت لا تمتّ إلى المنطق السيكولوجي أو الدرامي بصلة، وانما تتناسل لإشباع فضول المشاهد بتفاصيل غير متوقعة بعيدة عن المنطق.
أما مقاطع الفيديو، التي تنزل الى سوق الفرجة الافتراضية منذ شهور طويلة، فتتفنّن فيها "داعش"، من قطع رؤوس وصلب للمعارضين، وَصَفٍّ للجثث الى جوار بعضها البعض، بمشهدية تستفيد من فن التصوير الضوئي والتلفزيوني، وتذكّر بالأسلوب الفانتازي الأنزوري (نسبة الى المخرج نجدت أنزور)، المدعوم بغرابة الأزياء والخلفيات المكانية والأعلام السوداء المطعّمة ببياض الكتابة والشهادتين. إنها الفانتازيا البصرية التي تغيب عنها الحبكة فلا تقول الكثير عن المضمون لأن مهمتها فتنة البصر والسير خلفها بفم فاغر بعيداً عن الادراك العقلي.
ومن الواضح أن إعلام "داعش" استفاد من عنصر التشويق في الدراما وترقّب المشاهد للمفاجآت، فلم يكشف عن التفاصيل الشخصية لقائده الغائب خلف حجاب يغطي ملامح وجهه منذ الحلقات الاولى، أو منذ بثّ رسائله الأولى التي أعلن فيها عن تشكيل دولته المنشقة عن "جبهة النصرة" وعن آباء القاعدة عموماً.
وبعد التحدث من خلف حجاب، وبعدما راح الجمهور والاستخبارات كلٌ يخمّن ملامحه وهويته، فاجأهم أبو بكر البغدادي في "حلقة أخيرة" بالكشف عن وجهه الملتحي، وعن عمامة سوداء وعباءة بمثل لونها، مستفيداً هو وملابسه من المسلسلات التاريخية التي تناولت فترة خلافة العباسيين وقدمت تصوراً خاصاً لشكل ملابسهم وزينتهم وكلامهم الخطابي بالعربية الفصحى.
لكن المفاجأة البصرية التي كشفت عن هوية "البطل"، جاءت تالية على مفاجأة درامية قبل حلقة فقط، ألا وهي تنصيب نفسه خليفة للمسلمين، فاكتمل بذلك عنصر التشويق في الدرما الداعشية التي لم تقدم التفاصيل كلها دفعة واحدة.
وكما في معظم المسلسلات العربية، تُرك البغدادي "نجماً" أوحد للحلقات، تماماً كما يركز السيناريو التلفزيوني على بطل أوحد للمسلسلات يكون فيه بقية الممثلين مجرد كورس مكمّل لحضور النجم الطاغي في المشاهد المختلفة.
أما عن خطبة الجمعة نفسها التي ألقاها أبو بكر البغدادي، فإنها توحي بنقل تلفزيوني مباشر لخطبة الجمعة، مع فارقين، أن الخطبة تمت على جزأين استراح خلالهما الخطيب على سلّم المنبر، حتى تخيّلنا أن فاصلاً إعلانياً يمكن أن يفصل بين الجزء الاول والثاني. ثم إن اللقطات كانت تركز عليه، من زوايا مختلفة، ومن دون أن يتخلّل اللقطات الطويلة قطع على وجوه المصلين تظهر ردات فعلهم على خطبة تحبّب إليهم الصيام في رمضان وتذكر محاسنه، حتى ليخيّل للمشاهد أن الخطبة مسجلة في مسجد الحدباء في الموصل وقت خلوّه من المصلين، غير أن نهاية الخطبة تكشف سريعاً عن بعض المصلين وقد قاموا للصلاة. إنها هيمنة النجم الأوحد الذي لا ينافسه أحد إلا الكومبارس وصغار الممثلين.
أثارت هذه الخطبة تعليق الاعلام عموماً، فقد ارتجل البغدادي خطابه لمدة واحد وعشرين دقيقة ببلاغة لغوية لم تشبها أخطاء نحوية، مع سلاسة في الافكار التي تدرّجت على لسانه وكأنه يقرأها مكتوبة أمامه على مونيتور الفيديو.
وتساءلت "صنداي تلغراف" البريطانية عن نوعية الساعة التي يرتديها الخليفة الجديد وفي ما إذا كانت من ماركة "أوميغا" المرتفعة الثمن؟ وهو سؤال وجيه رغم طرافته، لأنه يعيدنا الى تفاصيل تكسر وهم الزمن الذي يوحي به الخطيب ولباسه وهما يوغلان أكثر من ألف سنة الى الوراء. ليست ساعة اليد لـ"خليفة المسلمين" فقط، بل وساعة الحائط والاضاءة الكهربائية، وحقيقة أن الخطبة منقولة عبر تقنيات تصوير متقدمة لم توجد في فترة أية خلافة سابقة.
لكن مهلاً، ألم نقل في بداية المقال إن "داعش" استفادت من "الأسلوب الأنزوري" في أعمالها؟ إنها الفانتازيا التي ضربت كل حدود المنطق الدرامي الأرسطي والمعاصر، وهي ما يحكم عروض "داعش" السمعية ـ البصرية الآن.