من بين المعارض الكثيرة التي تستضيفها ميلانو هذا العام، اختار متحف "برمانينتي" أن يفسح حيزاً مهمّاً للفنانة فانغ تشاولين (1914-2006)، أحد أهم الأسماء في الفن الصيني المعاصر. المعرض يستمر لغاية العاشر من أيلول/سبتمبر المقبل، وكان الغرض منه، كما صرّح القيّم دانييل سلوُسِهْ أثناء المؤتمر الصحافي، تعريف الجمهور الإيطالي بفن الرسم الصيني، وهو تقليد يستمر منذ 5000 عام، ويعزّزه بُعْد روحي وشعري عميق.
هذا الفن، الذي يُعرف عنه القليل في إيطاليا والعالم، يعيش منذ قرن مرحلة مضطربة بسبب تداخل الثقافات والانفتاح، الذي شهدته الصين تجاه العالم الخارجي منذ ثلاثة عقود تقريباً. منعطف أدى إلى تغييرات اجتماعية وسياسية وفنية في البلاد. تحاول نسبة لا بأس بها من الفنانين الصينيين الشباب اليوم، أن تُفلِت من قبضة التقليد من دون الخروج عن المراجع والفلسفة التي تقودها.
فانغ تشاولين هي واحدة من أولئك الفنانين، تعلّمت على يد كبار الأساتذة الصينيين مثل تشانغ داي تشيين، وقضت عمرها تسافر بلا كلل، في بحث متواصل عن جذورها، حيث التقت بالفن المعاصر الذي ساعدها كثيراً في إرساء مقوّمات جديدة، لتعزيز ثقافتها وتجربتها الفنية. وفي هذا الصدد تقول: "سافرت عبر الشرق والغرب، زرت جبالاً مشهورة وأنهاراً عظيمة في أوروبا وآسيا. أكتفي في التعبير عن أحاسيسي تجاه أشياء العالم، بالفرشاة والحبر. كرسامة صينية، أعتقد أنه يجب مواصلة وتكريس التقليد الفني الصيني العريق المتجذر بعمق في البلاد، وفي نفس الوقت، محاولة الخروج من الروتين وابتداع رؤية جديدة للفن".
الفنانة تضع باستمرار هذه المبادئ في أعمالها، رسومها للمناظر الطبيعية بأحجام كبيرة، تُذكّر وتطرح السؤال حول الصين في القرن الواحد والعشرين، وبدقة أكثر، حول الصين في المستقبل.
وبنظرة متأنية للوحات المعرض، نجد أنفسنا أمام نوع من الرسم مقارب كثيراً للقناعات التقليدية، إنما بشكل معاكس، وهي ربّما السمة التي تلفت النظر أكثر من أي شيء آخر: حذاقتها وتمرّسها في استعمال الحبر والفرشاة، تفصح عن تجديدات تقنية وصور داخلية تقودها أحاسيس عفوية وصادقة.
وليس من المبالغة القول إن رسوم فانغ تشاولين يُنظر إليها بالقلب، لأنها أُنجزت بالقلب. وتصنيف أعمالها بأنها جذابة ومتألقة، لا يقل عن أهمية التصنيف السياسي والاجتماعي الذي يحضر برقّة في رسومها، فنراها ترافق الناس في أعمالهم وحياتهم اليومية، متوّجة في ذلك قناعاتها وحبّها لبلدها. فانغ تشاولين تتعمق في المنظر الطبيعي، تمشي بين الجبال التي تريد تقديمها، تكشف غموضها، وتعيش الأماكن بعمق، والتي هي أحد ينابيع إلهامها قبل أن تنقلها على الورق.
بعد أن انتقلت إلى لندن عام 1963، مع ذاكرة مليئة بأحاسيس وبرؤى دافقة، أنجزت قسماً كبيراً من مناظرها الطبيعية بعيدة عن بلدها، بهدف واحد: البحث عن المعاني. مناظرها الطبيعية تنقلنا إلى حيّز من الوهم الجمالي، وهي ليست مناظر طبيعية فحسب، إنّما شهادات حيّة لما تحمل من حبّ لأرضها الذي تقدّمه بشكل أخّاذ، من دون أن تخفي تلك الهالة الشفّافة للبؤس الإنساني، بالأخصّ في لوحاتها المنجزة بالحبر الأسود فقط.
وما عدا بعض الاستثناءات، تقدم الفنّانة الإنسان في قدرته على تجاوز ما لا يمكن تجاوزه، بأواصر تربطه بالطبيعة، وتجعله يتآلف معها، وفي نفس الوقت، تدعوه برفق إلى البحث في أعماقه عن تلك المعاني الخفيّة.
الحجم الهائل لهذه اللوحات، ربّما بطريقة ما، مرتبط بفكرة اللانهائي، أو اللامحدود. قمم الجبال المخروطية والشاهقة في آن واحد، تبدو، حسب وجهة نظر من يتأملها (من الأسفل إلى الأعلى أو من الأعلى إلى الأسفل)، كوهاد سحيقة للروح، حتى في دوائرها اللاواعية التي تقارب حدود التحليل النفسي: قمم ووديان، منحنيات وسهول متدرجة الألوان، مزدحمة وخاوية، نرى المادة والروح تتحدان، من دون تنافس أو تعارض، لكي تشكل في النهاية ماهية الكائن الذي أعيد بناؤه في شموليّته. أليكسندر زنوفييف، الكاتب الروسي البارز، لكي يعبّر عن هذا النوع من التناقض كان يملك نقطة ارتكاز قوية: "القمم السحيقة"، كما عنْوَنَ أحد أهم رواياته.
ولا شك أن فانغ تشاولين، أثناء تجوالها الطويل في الغرب، تأثرت أيضاً بأعمال كبار الفنانين الغربيين، مثل بولّوك، وكلاين، وكاندينسكي، وسيزان. يقول دانييل سلفاتور شيفّر، الفيلسوف والمختص في دراسة فلسفة الفن: "من كل الأعمال التي اشتغلت عليها فانغ تشاولين، تبقى المناظر الجبلية الشاسعة والشاهقة أقوى تأثيراً على الروح، إن لم يكن على خيال المشاهد أيضاً. ولكن الاعتقاد أن سبب جاذبية كهذه تكمن بشكل أساسي في أحجام هذه اللوحات العملاقة، يجعل المرء يطلق أحكاماً جمالية سطحية، حتى لو أن معياراً كهذا لا يمكن إهماله، من دون أدنى شك، على صعيد النقد الرسمي".
والبحث عن المعاني، لا يتوقف عند المحتوى فقط، بل يتعدّاه، كرديف لا بد منه، إلى عناوين اللوحات أيضاً: رجل كهل مجنون يحاول أن يزيح الجبل، ونهر فضي يتساقط من السماء اللازوردية، وثلج في يوم مشمس، ومركب التنين، بالإضافة إلى مقاطع لشعراء وحكماء صينيين.
يقول دانييل سلوُسِهْ، قيّم المعرض: فانغ تشاولين طوّرت معرفة عميقة بتاريخ الفن الغربي، الكلاسيكي، وقبل وما بعد الانطباعية والتكعيبية والتجريدية والتعبيرية. مع ذلك، تبقى الصين محور كل أعمالها حيث عبّرت عنها من خلال مناظر طبيعية خلّابة، مليئة بالحياة وتحمل بصمات ذاكرتها في حركات فرشاة لا تبدعها إلا أنامل فنان متمرّس.