تحدث المدرب الإسباني خوانما ليو -أحد المهتمين بالتكتيك وبالأمور الفنية- قائلا "نتائج كرة القدم لا تناقش بقدر ما تناقش العملية التي تحققت من خلالها النتيجة النهائية"، ويؤكد في ذات الوقت في معرض رده عن الخطط الكروية وتأهيل الفرق من أجل المنافسة ودخول أجواء المباريات، أن "الأمر يتعدى مشاهدة المباراة ككل بحيث لا يكون الحكم على النتيجة فحسب"، في دلالة واضحة تؤكد قيمة العمل الشاق الذي يقوم به بعض المدربين في بداية الموسم الحالي، وسعيهم نحو ضبط بوصلة فرقهم، وتأسيس قاعدة صلبة ينطلق منها اللاعبون إلى القمة.
ما يلفت الانتباه من حديث المدرب الإسباني هو تطابقه تماماً مع ظهور فرق تسير بخطىً ثابتة نحو تقديم أداء تصاعدي متطور، ورغم أنها لم تصل إلى القمة بعد، ولكنها خطوات متقدمة صوب الطريق الصحيح مع بداية السنة الكروية الجديدة.
ميلان الجديد
يُعرف عن بيبو إنزاجي، مدرب ميلان الإيطالي الجديد، حماسه وروحه العالية كلاعب وهداف ثم مدرب للفريق الثاني، وحالياً مدير فني للفريق اللومباردي الأول، وهناك اتفاق حول هذه الحقيقة، لكن من المجحف أن نضع مستوى ميلان الحالي للروح والعزيمة فقط، بل هناك عمل تكتيكي راقٍ ومجهود جماعي واضح من إنزاجي والجهاز المعاون له، لذلك ظهر الفريق بشكل مغاير تماماً لما كان عليه في الموسم الماضي.
يلعب "الروسونيري" بأكثر من طريقة لعب خلال المباراة الواحدة، 4-3-3، 4-2-1-3، 4-3-2-1، 4-3-3-0 بدون مهاجم صريح، والغرض منها ليس وضع التشكيلات أو رسم الخطط داخل المستطيل، بل من أجل وضع نظام تكتيكي صارم ومحكم لمواجهة المنافس، ويجب أن يكون ملائماً لإمكانات وقدرات اللاعبين، ويعي إنزاجي هذا الكلام جيدا، وبالتالي يحاول دائماً التكيف مع كافة الظروف ومواجهة المعوقات في سبيل النقاط الثلاث.
يستخدم المدرب أجنحته بطريقة مميزة، عبر هوندا وبونافينتورا اللذين يلعبان على الطرف وفي العمق، وينطلقان من الخط ويتحولان إلى مركز الهجوم، مع أهمية عدم إغفال دورهما الدفاعي الواضح في مساندة الظهيرين، خصوصاً بونافينتورا، الذي قدم أوراق اعتماده رسمياً بأداء هجومي فعال ومجهود خلفي لافت.
نجح بيبو في تغيير مسار كل من دي يونج ومينيز، والاستفادة من هذا الثنائي قدر المستطاع، فالهولندي يصنع مع مونتاري ثنائية محورية تغلق العمق تماماً، وتسمح للظهيرين بالتقدم للأمام مع غطاء عرضي كامل، أما الفرنسي مينيز فهو اللاعب الحر في تشكيلة "الأسود والأحمر"، يهاجم وينطلق في الثلث الأخير، ويعود لكي يصبح صانع لعب، وفي بعض الأحيان جناح صريح، إنه الكل في الكل الذي توج مجهوده الوفير بهدف على الطريقة الأكروباتية.
مارسيليا يحلم مع بيلسا
رفع جمهور "الفيلودروم" الفرنسي لافتة شهيرة بداية الموسم كتب فيها: "مع اللوكو، دعونا نحلم"، والمدرب مارسيلو بيلسا حتى الآن يحاول الوصول إلى توليفة كروية مختلفة، تجعل عشاق الجنوب الفرنسي في حالة سعادة وبهجة مستمرة، والانتصارات الأخيرة المتتالية في الدوري المحلي تؤكد ذلك، يلعب مارسيليا دائماً 4-2-3-1، الخطة التقليدية المعروفة في معظم أندية أوروبا، لكن مع تكتيك المدرب الملقب بـ "اللوكو" 3-3-3-1، تغيرت الأمور بعض الشيء مع الفريق العريق.
في مباراة مارسيليا الفرنسي أمام نيس، تواجد ثلاثي الدفاع بشكل أقرب إلى ثنائي بالخلف، والمدافع الثالث يصعد لشغل دور لاعب الارتكاز في المركز رقم 4 بالملعب، ويلعب روماو أمام الدفاع وخلف الوسط، في حين يصبح أمام ثلاثي الوسط ثنائي فقط على يمين ويسار روماو، من أجل فتح وخلق زوايا التمرير، ويصعد إمبولا للأمام مع ثلاثي الهجوم، لتكوين رباعية أمامية في الثلث الأخير خلف جينياك، المهاجم الصريح. أي أنها خطة قريبة من 2-3-4-1.
وفي المباراة الأخيرة بالدوري أمام إيفيان، عاد الأرجنتيني إلى 4-2-3-1 من جديد، وفاز بالثلاثة بعد تألق المثلث الهجومي: أيو وبايت وثوفين، خلف المهاجم المتقدم جينياك، كما لعب مارسيليا بواقعية، ووقف ثنائي الارتكاز أمام خط الدفاع، مع فتح الأطراف عن طريق أجنحة أقرب إلى دور المهاجمين، ينطلق الثنائي ثوفين وأيو في داخل منطقة الجزاء، ويعود جينياك للربط مع صانع اللعب بايت، في إستراتيجية وحدة الفريق ككل دفاعياً وهجومياً، فكان لهم ما أرادوا وحققوا الانتصار.
مدرسة الضغط
حينما فاز بروسيا دورتموند الألماني على ريال مدريد الإسباني بالأربعة في دوري أبطال أوروبا 2013، أكد يورجن كلوب، مدرب الفريق بأن الـ"جيجن برسينج" هو صانع اللعب الأول ونجم الفريق الحقيقي، والـ(GegenPressing) تعني الضغط من منتصف الملعب، وإغلاق كافة الطرق أمام خط الوسط، وبمجرد قطع الكرة، تبدأ المرتدة القاتلة من منطقة المناورات وحتى خط المرمى، وهذا ما فعله دورتموند أمام الريال مرتين خلال عامين متتاليين في ملعب السيجنال أيدونا بارك.
ويمتاز الدوري الألماني "البوندسليجا" هذا العام بتنوع ووفرة المدربين المميزين تكتيكياً، وآخرهم المدير الفني لباير ليفركوزن، روجر شميدت، مدرب ريد بول سالزبورج النمساوي سابقاً، والوافد الجديد للدوري الألماني، ويمتاز هذا الرجل بضغط عال جداً أمام المرمى، لا يضغط من المنتصف كما يفعل دورتموند وأتلتيكو مدريد الإسباني أيضا، بل من الثلث الهجومي الأخير، على طريقة الأيام الخوالي لبيب جوارديولا وبرشلونة في الفترة بين 2008 وحتى بداية 2012.
وتحتاج إستراتيجية الضغط العالي إلى لياقة بدنية هائلة، وتدريب متواصل، بالإضافة إلى جماعية الفريق في التحرك بدون كرة، والسرعة المضاعفة من أجل استعادة زمام الأمور ووضع المنافس تحت الضغط، ويحاول ليفركوزن تطبيق هذه الفكرة خلال المباريات الأولى من البطولة المحلية، ونجح في ذلك خلال مناسبات عديدة، وحقق سبع نقاط من ثلاث مباريات، لكن تبقى بعض النقاط الخاصة بضعف الدفاع أثناء التحولات، وسهولة ضرب الفريق في حالة التقدم المبالغ فيه، وشميدت يجب عليه أن يجد حلولاً لهذه السلبيات.
في النهاية فإن الموسم ما زال طويلاً، والبدايات السعيدة لا تعني نهايات مميزة، لكن العمل المبذول من المثلث المتألق، بيبو إنزاجي وبيلسا وروجر يستحق التقدير، لأنهم يحاولون صنع حدث فني جديد، والمضي بفرقهم المتواضعة المستوى خلال السنوات الأخيرة، إلى نسق أعلى ومكانة أفضل، والعبرة دائماً بمن يضحك أخيراً.