تحت عنوان "تواطؤات: فريدا ودييغو"، افتُتح في "دار الفنون" في العاصمة المغربية الرباط، قبل أيام، معرض استعادي لبعض مراحل حياة الفنانة المكسيكية فريدا كالو ورفيق عمرها وابن وطنها الفنان دييغو ريفيرا. المعرض الذي يستمر حتى الثلاثين من الشهر الجاري، يضم أكثر من عشرين صورة فوتوغرافية تؤرخ للحظات كثيرة من حياتهما الصاخبة.
ما يمنح المناسبة أهمية توثيقية هامة، ليس كونها تقف على بعض التفاصيل الحميمة من حياة فريدا ودييغو، باعتبارهما شخصيتين بصمتا بقوة تاريخ الفن داخل المكسيك وخارجها، ولكن أيضاً لكون حياتهما كانت أصدق مرآة عاكسة لبعضِ من سيرة الانقلابات الجذرية، في السياسة كما في الحياة العادية، التي شهدها العالم الغربي خلال النصف الأول من القرن العشرين.
تعتبر فريدا كالو (1907 - 1954)، نتاجاً خالصاً للمأساة والألم في أبلغ تمظهراتهما النفسية والجسدية. ذلك أنها كانت ضحية حادثين اثنين قلبا مجرى حياتها رأساً على عقب. تمثل الأول بإصابتها، في طفولتها الباكرة، بمرض شلل الأطفال، ما أثر على إحدى رجليها. أما الثاني، فكان تعرضها، في سن الثامنة عشرة، لحادثة سير أصيبت على إثرها بإعاقة اضطرتها للبقاء ممددة على ظهرها طوال عام.
وللتخفيف من معاناتها، قامت والدتها، التي كانت ملاكها الحارس، بتثبيت مرآة كبيرة في سقف غرفتها، ما جعلها في مواجهة يومية قاسية مع نفسها؛ مع هيئتها وهي ممدة مثل مومياء خائرة القوى، ومع تسريحة شعرها الغريبة، وصورة وجهها الذي يحمل حاجبين كثيفين، يشبهان "جناحي غراب"، على حد تعبير بعض الكتابات التي تناولت سيرتها العجيبة.
هذه الحالة من الانهزام وعدم القدرة على الحركة، جعلتها تعي جيداً معنى القسوة ومعنى الخواء. هكذا، نسجت علاقة غامضة مع المرض باعتباره حالة دمار قصوى وإفراغاً للكائن من حيويته ونشاطه الطبيعيين.
على إثر ذلك، تولدت لدى فريدا حالة من الغموض والارتباك النفسيين، فرضا عليها، إضافة إلى ارتدائها ثياباً خاصة كانت تداري بها إعاقتها، نوعاً من السلوك العبثي الذي لا يخلو من تهور وانفعال وفقدان للتماسك، وهو السلوك الذي طبع ما تبقى من حياتها. ومن رحم هذه المعاناة، برزت لديها تلك القدرة العجيبة على الرسم؛ رسم نفسها، ككتلة بشرية مهزومة ترشح بالرعب والقسوة.
ومن قلب هذا الإحساس بالفراغ واللاجدوى، جاءت، أيضاً، أعمالها الفنية التصويرية، التي كانت في مجملها عبارة عن بورتريهات شخصية. كأنها كانت تحاول أن تدل باللون والشكل والرسمة الخاصة على ذلك الرعب الأصيل الذي كان يكبر في وجدانها، من دون إغراق في مجاهل الخيال، بما يحيل على نوع من الحفر الحثيث الذي كان يمعن في إزالة قشرة الوهم والخداع والمظاهر الخادعة عن صورة الكائن الهش؛ صورة فريدا وهي لا تقوى على الحراك: مجرد كثلة لحم ممددة فوق سرير أبيض بارد.
شاءت المصادفات أن تقع فريدا، عام 1929، بعد أربع سنوات من الحادث الذي أصابها، في حب الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا، الذي كان يكبرها بعشرين سنة، وهو الحب الذي سيكلل بزواجهما. لكن، بسبب مزاجها الصعب وازدواجيتها الجنسية، سينفصلان عام 1939، قبل أن يعودا إلى مجرى الحب بعد عام من تلك القطيعة.
وحسب بعض النقاد، لم يكن لنجم فريدا أن يحتل سماء الإبداع، ربما، لولا ميولها، هي ورفيق حياتها ريفيرا، إلى الأفكار الشيوعية، وإلى تلك الصداقة التي نسجا بعض أسرارها مع الزعيم السوفييتي الانقلابي ليون تروتسكي، الذي كان آنذاك، قبل حادث اغتياله الشهير، هارباً من بطش الديكتاتورية الستالينية الدموية، حيث نقلت الأخبار أنه كان يشارك الزوجين سكنهما، حتى قيل إن تروتسكي وفريدا "سمحا للشيطان أن يكون- في لحظة إعجاب متبادل- ثالثهما!".
وبعيداً عن هذا النوع من النميمة غير الفنية الآثمة، استمرت فريدا ودييغو في تأثيث المشهد الفني داخل المكسيك وخارجها، بما يعتبر إضافة نوعية حاولت أن تقارب، على الأقل بالنسبة إلى فريدا، تشظي الكائن البشري وضياع بوصلة التوازن لديه، في عالم كان يغلي على نار الحروب الكونية، والتحولات المجتمعية المتسارعة، والتجاذبات السياسية القطبية، في الوقت الذي كان يشهد انقلابات جذرية مضطردة في الموضة، كما في الموسيقى والكتابة ونمط الحياة. كل ذلك شكل العناوين الكبرى لعالم القرن العشرين، الذي توج فريدا كالو فنانة لا تشبه غيرها؛ فنانة صاحبت العجز والقسوة فوق سرير الألم الأبيض.