07 ابريل 2020
فساد التصور
تتغذى الأنظمة المستبدة الفاشية على جهل شعوبها وتغييب وعيها، وتستمد بقاءها من تشويه القضايا القومية، وتغيير المسميات، واللعب على وتر" فساد التصور" لكثير من العادات والقيم المجتمعية والدينية التي توارثتها الأجيال في كل مجتمع.
يقول المنفلوطي: "ولولا فساد التصور ما افتخر قائد الجيش بأنه قتل مائة ألف من النفوس البشرية في حرب لا يدافع فيها عن فضيلة، ولا يُؤيد بها حقاً من الحقوق الشرعية أو الاجتماعية، ولولا فساد التصور ما وضع المؤرخون اسم ذلك السفاح بجانب أسماء العلماء والحكماء والأطباء خَدمة الإنسانية وحملة عرشها وأصحاب الأيادي البيضاء عليها في سطر واحد من صحيفة واحدة، ولولا فساد التصور ما جلس القاضي المرتشي فوق كرسي القضاء يفتل شاربه ويصعر خديه، وينظر نظرات الاحتقار والازدراء إلى المتهم الواقف بين يديه موقف الضراعة والذل، ولا ذنب له عنده إلا أنه جاع وضاقت به مذاهب العيش فسرق درهماً، وهو يسرق الدنانير في جميع أنائه وأوقاته. ولولاه لما توهم اللص الكبير أنه أشرف من هذا اللص الصغير، ولو باتا عند قدريهما لوقفا معاً في موقف واحد أمام قاض عادل يحكم بإدانة الأول لأنه سرق مختاراً ليرفه عيشه، وبراءة الثاني، لأنه سرق مضطراً لينقذ حياته من براثن الموت".
وقد لعب جمال عبد الناصر على هذا الوتر كثيراً طيلة سنوات حكمه، وتبين فيما بعد كذبه وادعاؤه، وأنها ما كانت غير سراب حسبه المصري الظمآن ماء حتى إذا جاءه بعد سنوات لم يجده شيئاً، ووجد النكبة التي أصابته نتيجة الرقابة على كل شيء، وتغييب كل حقيقة، وقد استمرت حتى بعد النكبة رغم أن نظام عبد الناصر لم يعد عنده ما يخفيه عن الناس، فقط لأن عقلية الحاكم العسكري لم تتغير، وظل الغائبون يرددون كالببغاء صوت عبد الحليم حافظ وهو يغنى: "اطلب تلاقي .. تلاتين مليون فدائي".
وقصة أحمد سعيد في صوت العرب معروفة، ومعروف مساهمته في التضليل والكذب والافتراء، ونشر معلومات كلها إشاعات. وتلك كانت السياسة العربية التي وصفها ناصر الدين النشاشيبي: "أخبارها ظلام، وخططها همسات، وجلساتها نكات، وقراراتها مؤامرات، وأصحابها آلهة، فإذا ما حاول أحدهم كشف الكلام وفضح المؤامرات ونشر الهمسات ومحاسبة الآلهة، قامت القيامة، وانتصب الميزان".
وجاء الانقلاب العسكري في مصر وانقلبت معه كل القيم والتصورات التي كانت تُعد يوماً ما من ثوابت وأركان المجتمع المصري، كنظرته إلى الجيش ومكانته في قلبه ووعيه، وأنه هو حامي الحمى وحارس الحدود من المتربصين.
ولكن بعدما أقحم السيسي الجيش في السياسة، وأنزله إلى الشوارع، وأعمل بنادقه في القتل والحرق، أفسد على الناس تصورهم ونظرتهم للجيش. وكذلك إيمانه الثابت بأن الكيان الصهيوني عدوه اللدود؛ الذي حاربه وقدم في سبيل مواجهته الكثير من الشهداء. ثم يتحول فجأة إلي صديق، وجار، ثم نسمع السيسي يصرح بأنه قد أحرز هدفاً، وذلك بعد عقد صفقة مع الكيان الصهيوني، بموجبها يقوم الأخير بتوريد الغاز إلى مصر لمدة عشر سنوات بقيمة خمسة عشر مليار دولار. في الوقت الذي خرج فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي يُبشر شعبه بأن اليوم يوم عيد، لأن الصفقة سوف تُدر عليه الأرباح وتعود عليه بالرخاء.
كذلك من فساد التصور: تبرير التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، في مشهد دراماتيكي تُقْلب فيه الحقائق، وتُغير فيه الثوابت، والتفريط في مياه النيل وسلبية التعامل مع أزمة سد النهضة الإثيوبي، والتضليل الإعلامي القائل: بأنه ربما يجلب الفوائد للمصريين!
كل ذلك يتم بما يُعرف بالوهم السياسي كما بينه عمار علي حسن في كتابه الخيال السياسي بأنه: "التصورات والأفكار والخرافات التي يعتقد المرء بصحتها من دون أي أساس واقعي ومنطقي وعقلي وعلمي، وبأنها قابلة للتحقق في الواقع.. فكل ما ليس بممكن الحدوث الآن ولا في المستقبل هو وهم".
ويقول: "لقد بات إنتاج وبيع وشراء الأوهام عملية رائجة في زماننا، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة في ترويج نمط الحياة والأفكار والصور والأخبار، عملية تقوم بها أنظمة ودول ومؤسسات وأفراد.. والوهم السياسي صنف من التفكير خارج حدود الممكن، ولذا فإنه يجعل صاحبه يرى الخطأ صواباً، كما يريه العدو صديقاً والصديق عدواً، ومن هنا فإن أكثر ما تكون أخطاء الوهم شنيعة وقت أن تكون سياسية فحينها تصبح نتائجها كارثية ومدمرة".
إن فساد التصور الذي يحدثه المستبدون بنشر الأوهام والخيالات الكاذبة في عقول الشعب، تكون من الخطورة بمكان بحيث يؤدي حينئذ إلى كسر سَوْرة بأسهم، وذهاب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما قال ابن خلدون. وقد نهى عمر بن الخطاب سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما عن كسر أصحابه، وذلك لما أخذ زهرة بن جوية سلب الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له:" هلا انتظرت في اتباعه إذني"، وكتب إلى عمر يستأذنه، فكتب إليه عمر: "تعمد إلى مثل زهرة وقد صَلِي بما صَلِي به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه- تثبط همته – وتُفسد قلبه". وأمضى له عمر سلبه.
لذا وجب على النخب المثقفة أن تتصدى لهذا التلوث القيمي وتزيل الفساد عن التصور لقيم المجتمع وتقاليده، وتصقله من جديد وتحث أفراد الشعب على التمسك بقيمهم وصواب تصورهم لهذه القيم، حتى تكون حبل النجاة لهم، وصمام الأمان للأجيال التي تأتي من بعدهم.