فلسطينية رغماً عنها
"نــوال أبو سمعان حرم الكافي"، هذا هو اسم أمـي وأم أول عائلة لآل الكافي. امرأة شديدة الغموض والغرابة، سيّدة اُرغمت على التهجير من بلد لم يستطع احتواء أبنائه كما لم يفعل جدي مع ابنته.
فلسطينية بطبعها أو اُكرهت هي الأخرى على حمل هذه الهوية... نعم فالبعض منا يخجل من كونه فلسطينيّا ويحارب بكل ما أوتي من نفس كي يستبدل الجنسية، وهنا بدأت مسيرة أمي نحو كسر القيد الأول ودون وعــي طبعا، فأن تطلب تغيير جنسية يحاول نصف سكان العالم أن يكسبها هو حتما ضرب من الجنون.
فعلت ذلك حين وعت بأن الأب والرجل الوحيد في اعتبارها هو في الحقيقة عائل لثلاث عائلات أخرى وزوج لأخريات غير أمها، والأقسى أنه أب مشترك بين إخوة وأخوات أخريات في فلسطين.
لم تكن أمي في سِنّ تتيح لها التفكير العقلاني أو أن تكون حيادية في تقديرها للوضع، وأن تفصل مسألة كونها أصيلة بلد المقاومة عن كون أبيها الفلسطيني المتسبب بجرحها. لم تفهم قدرة الإنسان على الإيذاء خاصة وأن أمها لم تكن على دراية بزيجاته الثلاث ولقيت صدمة ابنتيها وأكثر.
كل محاولات التخفيف من حدّة المفاجأة لم تشف غليل أمي إلا حين انسلخت عن كل ما يربطها بـ "الدونجوان الفلسطينيّ" كما اعتبرته. فعلت كما فعلت جدتي بطلاقها وحاولت أن تطلّق هي أيضا فكرة كونها من ضلع ذاك الرّجل، وأنها ثمرة علاقة حبّ شبيهة بغراميات روميو وجولييت، ولا زالت إلى اليوم ترفض تسمية ما كان يربط فتيحة بعبد الرّحمان حبا.
ومن حسن حظ أمي أن رقعة أخرى من الأرض استقبلتها لتبدأ من جديد. بلد المليون شهيد، هوية أمها التي كادت تنساها بتأثير الفلسطيني وكل صفاته البطولية الظاهرة.
أمـي بقيَت تصارع مُحاوِلة التخلص من كونها ابنة لفرد من المقاومة الفلسطينية وصحافية جزائرية، كان مشوارها أطول مما كانت تظن، بداية من التخلص من فلسطينيّتها الموهومة واكتسابها للجزائرية التي كانت بمثابة نفس شديد بعد طول اختناق.
اختارت أمي الانتساب لأبي واستقرت بتونس، وجدت هنا بعضا من سكينتها النّفسية. ابتعدت عن صراع الهويات التي عاشته زمنا. امرأة فضلت أن تكون وحيدة ببلد لم تعرف فيه سوى رجل أحبته فاحتوته وعاشت له. بهروبها ذاك أرادت أن تثبت أن فئة ممن تخلت هي عنهم لم يتعدوا كونهم مجرّد صفر سالب في حياتها.
أرى بعَيْنيْ تلك المرأة حضارات مجتمعة، أرى كل آلامها وحنينها لأشياء لم أستطع فهمها. لم أدرك حدّ هذه اللحظة هل أن أمي هربت وتركت ذاتها هناك، أم أنها جلبت ما تبقى منها وأعادت بناء هويتها انطلاقا من ولادتي.
أريد تذكير نفسي بأن كل فعل تفعله بحب ورغبة، وأن اختيارها المكوث ببلد لم تستطع إلى الآن أن تغرس جذورها فيه، هو أجدر مثال على المقاومة... صفة تأصّلت فيها دون أن تشعر.
أمي مزيج غير متجانس من عديد الجنسيات، امرأة هُجّرت من ذاتها وأثبتت لنفسها ولنا أن الهوية ليست ترابا ورقعة أرضيةـ بقدر ما أنها تتلخص في من يمثّلون لنا تلك الهوية ومن يشاركوننا إياها، أمي اليوم تونسية جزائرية، بلفحة فلسطينية منسيّة، وبتاريخ يشهد أنها قاومت مثلها مثل أبناء الكوفيّة بل ولا زالت تقاوم، هي تتنفسنا بشراسة بالرغم من أنها بعيدة عن "ريحة البلاد وأهلها"، ولا زلت أرفض ذلك الشعور بأن أمي كانت هوّية اندثرت غصبا، بل إنني أجدها كيانا صامدا خلق هويته من بقايا الذّاكرة، من قسوة القدر، وممّا اقترف الأهل، فهنيئا لنا بــها.