24 يونيو 2018
للموت بقية...!
خلدتُ إلى الفراش من شدة التعب، غفلت قليلاً بعد يوم لم أشعر بأنه عيد، حتى استفقت على صوت أمي توقظني قائلة جدتك مريضة وأنفاسها ضاقت.
أسرعت أمي إلى بيت جدتي ومعها قلبي، بعد ربع ساعة قضيتها مشتتة بين وسوسات عقلي وبين صور التلفاز الصامتة، سمعت توقف سيارة أمام بيتنا، سمعت نواح أمي بشدة، كان مثل قرع طبول لم تحتمله أذني، شعرت بأن وضع جدتي خطر، حاولت أن أعرف ما بها.
سألتها هل ماتت؟.. أومأت بالإيجاب باكية، كذّبت أمي رغم أنها المرأة الوحيدة التي رعتها بجهدها وعاطفتها وكل قوتها في شدتها بعد أبي، واتصلت بأول رقم اعترضني في الهاتف ولم أسمع سوى النواح، ولم أصدق..
أذكر جيداً في تلك اللحظات غاب كل شي عن ذهني وحضر الموت، كان سيد اللحظة، بكيت من دون شعور، اشتدت عروق جسدي، فقدت جزءاً من وعيي وما تبقى منه أسعفني في ارتداء ملابسي والركض إلى بيت جدتي، دخلت بيت جدي بغير سلام على غير العادة، تجمدت ساقاي ولم أدخل غرفتها، لم تكن الصورة تستحق التأكد بأكثر من رؤية أولادها ينزفون الدموع على ذاك اللحاف الأبيض، فكرت أن جدتي تكره الحرّ فلم غطيتموها؟ جدتي تكره الغطاء انزعوه عنها، وكيف تجرأتم على إخفاء وجهها، كيف سارعتم الأحداث، هي تحتاج الهواء، تحتاج فسحة من الوقت وجرعة أكسجين كي تنهض، لم استسلمتم للفقدان هكذا؟ ومن الذي أكد رحيلها؟
أسرعت أمي إلى بيت جدتي ومعها قلبي، بعد ربع ساعة قضيتها مشتتة بين وسوسات عقلي وبين صور التلفاز الصامتة، سمعت توقف سيارة أمام بيتنا، سمعت نواح أمي بشدة، كان مثل قرع طبول لم تحتمله أذني، شعرت بأن وضع جدتي خطر، حاولت أن أعرف ما بها.
سألتها هل ماتت؟.. أومأت بالإيجاب باكية، كذّبت أمي رغم أنها المرأة الوحيدة التي رعتها بجهدها وعاطفتها وكل قوتها في شدتها بعد أبي، واتصلت بأول رقم اعترضني في الهاتف ولم أسمع سوى النواح، ولم أصدق..
أذكر جيداً في تلك اللحظات غاب كل شي عن ذهني وحضر الموت، كان سيد اللحظة، بكيت من دون شعور، اشتدت عروق جسدي، فقدت جزءاً من وعيي وما تبقى منه أسعفني في ارتداء ملابسي والركض إلى بيت جدتي، دخلت بيت جدي بغير سلام على غير العادة، تجمدت ساقاي ولم أدخل غرفتها، لم تكن الصورة تستحق التأكد بأكثر من رؤية أولادها ينزفون الدموع على ذاك اللحاف الأبيض، فكرت أن جدتي تكره الحرّ فلم غطيتموها؟ جدتي تكره الغطاء انزعوه عنها، وكيف تجرأتم على إخفاء وجهها، كيف سارعتم الأحداث، هي تحتاج الهواء، تحتاج فسحة من الوقت وجرعة أكسجين كي تنهض، لم استسلمتم للفقدان هكذا؟ ومن الذي أكد رحيلها؟
مكنتني مشاعر قبيحة ومظلمة وجلست على أقرب كرسي وذهني أخرس، عيناي تدمعان بغير قدرة، جسدي يرتعش، تتالت الأحداث بسرعة، أسبلت جدتي مغطاة بالأبيض، أحيطت بالناس جدتي، توفيت جدتي، واُخفيت بالأبيض.
ساد الصوت والصراخ والعويل، امتلأ الجو برائحة الموت، ولم أصدق.. خيِّل لي حينها أن الموت قضية حُشرت فيها جدتي عنوة ودون رغبة منها وخيّل لي بأن الله قاض يجب أن ألجأ إليه ليعلن براءتها ولتعود جدتي بكامل حضورها الى البيت!
أن تعود بنظراتها المتسائلة دوما عن كل شي وعن اللاشيء.. جدتي البسيطة.. كنت كلما أشعر بثقل الروح أمضي إليها وكانت تحمل حفنة ملح وتجلسني أمامها وتبدأ في قراءة ما تحفظه من القرآن، كنت أهدأ إلى جانبها، ظلت وحيدة في البيت بعد مضي جدي، كانت تتحدث لساعات من دون أن تنتظر مني إجابة، وكأنها تعوض بقربي ساعات الوحدة التي كانت تقضيها لحالها، تلك المرأة كانت تخاف الوحدة لكنّ أحداً لم يشعر.. لم يأبه أحد..
عقلي غاب عن وعيه بما فيه الكفاية لأيقن أن الموت لم يكن قضية ولم يترافع عنها أحد، ووضعها ذاك لم ولن يكون مؤقتا كما صور لي ذهني، وغادرت جدتي، غادرت بيتا لم تفارقه لأكثر من ثلاثين عاما، موتها كان غدرا لكل من أحبها، جدتي كانت مريضة جدا وممتلئة إلى درجة العجز عن المشي، لكن قلبها كان حيا، حبها للوجود والاستمرار لم تخفه عن أحد أبدا..
"مِيمَة" أُسبلت على الأرض مغطاة بالأبيض كانت ممددة هناك من دون روح من دون صوت وحركة، كنت أنتظر بيأس أن تخطئ وتتنفس ويتحرك جسدها، كنت أنتظر بيأس أن تفاجئنا وأن تقول إنها مزحة، لكن الساعات توالت الى أن شعرت أن نسمة دافئة تداعب وجهي، لم أفهم ذلك الشعور ولم أحاول تفسيره لكنني اقتنعت حينها بأن جدتي ودعتني، بكيت بهيستيريا أرعبتني ولم أكن أعرف بأن جدتي عزيزة على قلبي لتلك الدرجة، ظللت قربها أربت على رأسها ساعات طويلة، عرّيت وجهها وأشحت بوجهي يسرة من هول ذاك المنظر.
رأيت الموت حاضرا على وجهها.. رأيته بكل جبروته، بجبنه وقوته رأيته في تلك الرموش المغلقة غصبا، مرت ساعات من البكاء الهستيري والبكاء المستسلم لواقع لم تختره ولم أتقبله بسهولة، وحين جاء وقت غسلها خُطف قلبي، تمزق قلبي، أردت أن أحضر معهم أردت أن أغسل جسدها كما كنت أفعل دائما، لكن هذه المرة دون دعواتها، دون حديثها، ظللت ألمحها من الشباك خلسة الى أن فطنوا لوجودي حين علت شهقاتي، منعوني من الرؤية وأغلقوا النافذة، كانت الأصوات تتعالى بالرحمة على روحها وبالبكاء والعويل، بالصراخ والصمت، بالنعي والرثاء، حين أُخرج نعشها لم تتركها عين واحدة من الحضور، أردت أن أزغرد أردت أن أصرخ لأقول لستِ وحدكِ، لا تخافي من الظلمة، لا تجزعي واطمئني، فالكل يحبك والله يحبك، أردت ان أطمئنها أردت أن أرافقها، اعتصر قلبي، شعرت بوحدة مرعبة وهي تغادر، سمعت صراخها بألا أتركها، سمعت رجاءها، وكنت أصغر بكثير من أن أقف في وجه قدرها..
غادرت أمنا، كبيرة البيت غادرت، غاب صوتها، غابت دعواتها، وضحكتها القوية، فارقتنا بسرعة كبيرة، غادرت وفي قلبها أمنية واحدة: أن يجتمع أولادها قربها يوما، لكنهم لم يأبهوا فاستسلمت لواقعها وذهبت وحيدة.
نمت ولأول مرة دون أن أحلم، دون أن تأتيني الكوابيس، نمت وكأنما صخرة ثقيلة ردمت وعيي.
في الغد ذهبنا إلى المقبرة حيث ترقد مبروكة العياري حرم رمضان الكافي، على بعد قبرين من قبر جدي، هناك حيث قُبر معها جزء من قلبي، كنت وما زلت أنتظر أن تناديني "ميمة" أو أن تطلب مني شيئا، لكنها ظلت صامتة، استسلمت وتقبلت الحقيقة المطلقة الوحيدة.
هم الآن يواسونني ويقولون بأنها ارتاحت.. لا أدري.. ربما.. لكن الأكيد أن "ميمة" رحلت.
ساد الصوت والصراخ والعويل، امتلأ الجو برائحة الموت، ولم أصدق.. خيِّل لي حينها أن الموت قضية حُشرت فيها جدتي عنوة ودون رغبة منها وخيّل لي بأن الله قاض يجب أن ألجأ إليه ليعلن براءتها ولتعود جدتي بكامل حضورها الى البيت!
أن تعود بنظراتها المتسائلة دوما عن كل شي وعن اللاشيء.. جدتي البسيطة.. كنت كلما أشعر بثقل الروح أمضي إليها وكانت تحمل حفنة ملح وتجلسني أمامها وتبدأ في قراءة ما تحفظه من القرآن، كنت أهدأ إلى جانبها، ظلت وحيدة في البيت بعد مضي جدي، كانت تتحدث لساعات من دون أن تنتظر مني إجابة، وكأنها تعوض بقربي ساعات الوحدة التي كانت تقضيها لحالها، تلك المرأة كانت تخاف الوحدة لكنّ أحداً لم يشعر.. لم يأبه أحد..
عقلي غاب عن وعيه بما فيه الكفاية لأيقن أن الموت لم يكن قضية ولم يترافع عنها أحد، ووضعها ذاك لم ولن يكون مؤقتا كما صور لي ذهني، وغادرت جدتي، غادرت بيتا لم تفارقه لأكثر من ثلاثين عاما، موتها كان غدرا لكل من أحبها، جدتي كانت مريضة جدا وممتلئة إلى درجة العجز عن المشي، لكن قلبها كان حيا، حبها للوجود والاستمرار لم تخفه عن أحد أبدا..
"مِيمَة" أُسبلت على الأرض مغطاة بالأبيض كانت ممددة هناك من دون روح من دون صوت وحركة، كنت أنتظر بيأس أن تخطئ وتتنفس ويتحرك جسدها، كنت أنتظر بيأس أن تفاجئنا وأن تقول إنها مزحة، لكن الساعات توالت الى أن شعرت أن نسمة دافئة تداعب وجهي، لم أفهم ذلك الشعور ولم أحاول تفسيره لكنني اقتنعت حينها بأن جدتي ودعتني، بكيت بهيستيريا أرعبتني ولم أكن أعرف بأن جدتي عزيزة على قلبي لتلك الدرجة، ظللت قربها أربت على رأسها ساعات طويلة، عرّيت وجهها وأشحت بوجهي يسرة من هول ذاك المنظر.
رأيت الموت حاضرا على وجهها.. رأيته بكل جبروته، بجبنه وقوته رأيته في تلك الرموش المغلقة غصبا، مرت ساعات من البكاء الهستيري والبكاء المستسلم لواقع لم تختره ولم أتقبله بسهولة، وحين جاء وقت غسلها خُطف قلبي، تمزق قلبي، أردت أن أحضر معهم أردت أن أغسل جسدها كما كنت أفعل دائما، لكن هذه المرة دون دعواتها، دون حديثها، ظللت ألمحها من الشباك خلسة الى أن فطنوا لوجودي حين علت شهقاتي، منعوني من الرؤية وأغلقوا النافذة، كانت الأصوات تتعالى بالرحمة على روحها وبالبكاء والعويل، بالصراخ والصمت، بالنعي والرثاء، حين أُخرج نعشها لم تتركها عين واحدة من الحضور، أردت أن أزغرد أردت أن أصرخ لأقول لستِ وحدكِ، لا تخافي من الظلمة، لا تجزعي واطمئني، فالكل يحبك والله يحبك، أردت ان أطمئنها أردت أن أرافقها، اعتصر قلبي، شعرت بوحدة مرعبة وهي تغادر، سمعت صراخها بألا أتركها، سمعت رجاءها، وكنت أصغر بكثير من أن أقف في وجه قدرها..
غادرت أمنا، كبيرة البيت غادرت، غاب صوتها، غابت دعواتها، وضحكتها القوية، فارقتنا بسرعة كبيرة، غادرت وفي قلبها أمنية واحدة: أن يجتمع أولادها قربها يوما، لكنهم لم يأبهوا فاستسلمت لواقعها وذهبت وحيدة.
نمت ولأول مرة دون أن أحلم، دون أن تأتيني الكوابيس، نمت وكأنما صخرة ثقيلة ردمت وعيي.
في الغد ذهبنا إلى المقبرة حيث ترقد مبروكة العياري حرم رمضان الكافي، على بعد قبرين من قبر جدي، هناك حيث قُبر معها جزء من قلبي، كنت وما زلت أنتظر أن تناديني "ميمة" أو أن تطلب مني شيئا، لكنها ظلت صامتة، استسلمت وتقبلت الحقيقة المطلقة الوحيدة.
هم الآن يواسونني ويقولون بأنها ارتاحت.. لا أدري.. ربما.. لكن الأكيد أن "ميمة" رحلت.