وقفت الكلمات عاجزة أمام وصف الحال في بلدة كفر كنا الجليلية (شمالي فلسطين)، يوم السبت، في أعقاب استشهاد الشاب خير حمدان برصاص الشرطة الإسرائيلية بدم بارد.
حالة انقسمت بين الحزن الشديد الذي خيّم على الأجواء، والذهول والصدمة والحيرة، فكيف يُقتل شاب في مقتبل العمر (22 عاما) بهذه البساطة من قبل شرطي لم يفكر مرتين، بل لم يفكر بتاتاً قبل الضغط على الزناد فأرداه قتيلاً.
في إحدى زوايا البيت، جلس والد خير حمدان بين المعزين يجهش بالبكاء، يرفع عينيه قليلاً ينظر إلى من حوله ويعود إلى حاله، فلا شيء يواسيه. لكنه سرعان ما يستجمع قواه ويتحدث إلى مندوبي وسائل الإعلام عن ابنه الذي قتلته الشرطة الإسرائيلية بلا سبب، كما أظهر المقطع المصور الذي التقطته كاميرا مراقبة، وفنّد كذب ادعاءات شرطة الاحتلال بأنه شكّل خطراً على أفرادها. وأوضح التسجيل بما لا يقبل الشك أن الشرطة قتلته بدم بارد. وساهم هذا المقطع الذي انتشر بكثافة في المواقع وعلى صفحات "فيسبوك"، في تعزيز حالة الغليان غضباً من عملية إعدام حمدان، وهو ما ترجم في التظاهرات الحاشدة التي خرجت أمس الأحد، لليوم الثاني على التوالي، تزامناً مع الإضراب العام والشامل الذي شهدته كافة قرى ومدن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
وأضاف بكاء النساء تأثيره على الأجواء في قرية كفر كنا. وبدا مناخ القرية مختلفاً يوم التشييع في عيون الكثيرين، بسبب الأثر النفسي الذي تركته جريمة الإعدام.
أما الأطفال الصغار، فحضر الكثيرون منهم حول بيت العزاء وفي المسيرة والجنازة، يعلمون أن حمدان قُتل برصاص الشرطة الإسرائيلية لكنهم لا يفهمون لماذا؟ وجميع محاولات ذلك الأب الذي سعى إلى ن يشرح لابنه، الذي لم يتجاوز الرابعة، باءت بالفشل. عيون الطفل وردّ فعله أكدا أنه لم يدرك أكثر من أن الشرطة تقتل العرب، فتساءل بعد شرح والده "يعني البوليس بدو يقتلنا؟"، وارتمى في حضن الأب.
وكان رئيس المجلس مجاهد عواودة قد أشار إلى أن "أطفال القرية باتوا يحتاجون علاجاً نفسياً بعد مشاهدتهم المقطع المصور الذي يوثّق القتل"، لكن أطفال كفر كنا لم يكونوا الوحيدين، فما ألمّ بهم ينطبق على نسبة كبيرة من أطفال الداخل الفلسطيني في ذلك اليوم.
مشهد آخر بعث الرهبة في نفوس أهالي القرية والجماهير العربية المتوقدة، هو مشهد عشرات الآلاف الذين وصلوا كفر كنا للمشاركة في المسيرة ومن ثم في تشييع الجثمان.
وقد حفزت جريمة قتل الشاب خير حمدان، أبناء الداخل الفلسطيني، لينتفضوا مجدداً في وجه الاحتلال وزادهم غضباً تحريض المسؤولين الإسرائيليين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وعدد من وزرائه وقيادات الشرطة الذين شرعنوا عمليات إعدام العرب بتصريحاتهم.
العلم الفلسطيني كان يرفرف في كل الأرجاء، تأكيداً على هوية المكان. أما عند مدخل قرية كفر كنا، فتجمع الكثير من الشبان الملثمين، أحرقوا الاطارات، ووقفوا بوجه شرطة الاحتلال وقذفوا عناصرها بالحجارة، ولسان حالهم يقول "لن تهزموا إرادتنا برصاصكم وإرهابكم. دماؤنا غالية وكرامتنا أغلى". فالشرطة الإسرائيلية كانت قد نشرت قواتها عند مداخل القرية، تستوقف السيارات وتمنع دخولها وتوجه السائقين إلى طرق جانبية بديلة، وتستفز الناس أكثر. كما قامت بتعزيز قواتها ورفع درجة التأهب خاصة في نقاط الاحتكاك المحتملة.
وقد أكدت مسيرة الغضب التي شهدتها كفر كنا، وشارك فيها أكثر من 10 آلاف من فلسطينيي الداخل، وما سبقها وعقبها من مواجهات، بما في ذلك أمس الأحد، فضلاً عن النشاطات الاحتجاجية في عدد كبير من البلدات العربية والاضراب العام والشامل، أن المحاولات الإسرائيلية لتقويض وإخضاع الشباب على وجه الخصوص، من خلال الترهيب وحملة الاعتقالات الواسعة التي قامت بها الأجهزة الإسرائيلية في أعقاب قتل الفتى محمد أبو خضير وفي فترة العدوان على غزة، لم تجد نفعاً، بل زادتهم إصراراً على مواجهة قمع المؤسسة الإسرائيلية وأذرعها الأمنية، بحسب ما اثبتته أحداث كفر كنا.
بين الجموع المشاركة في المسيرة، بادرت سيدتان جاوزتا السبعين من العمر بالحديث إلى "العربي الجديد"، فقالت إحداهما "اُكتب أن دماءنا غالية وأبناءنا ليسوا عصافير يتم اصطيادهم من قبل الشرطة الإسرائيلية التي قتلت خير حمدان. ونحن هنا لنؤكد أن أرحامنا ولدت أبطالاً، وهؤلاء المشاركين لن ينسوا هذه الجريمة ولا غيرها من الجرائم لذلك. فأنا مطمئنة. أرحامنا انجبت رجالاً وليس عصافير يسهل قتلها من دون رد فعل".
من جهتها، قالت السيدة الثانية إن "أرواح شبابنا غالية، فلماذا يقتلونهم بهذه البساطة هنا وفي غزة والقدس؟ ماذا يريدون منا؟ هذه بلادنا ونحن باقون هنا، فهم لا يرعبوننا، فنحن أصحاب حق ولا نخاف".
أما أحد الشبان الملثمين فقال لـ "العربي الجديد"، إنه شارك في مواجهات صباح السبت في أعقاب عملية إعدام حمدان. وأكد أن "الموضوع لم ينته بعد، فالقضية ليست قضية حمدان وكفر كنا، بل هي قضيتنا جميعاً ولن تمر مرور الكرام".
وفي أعقاب المسيرة وسماع تصريحات رئيس وزراء الاحتلال وعدد من وزرائه وقيادات الشرطة التحريضية على قتل العرب، أكد شاب آخر في حديث إلى "العربي الجديد" أن "زعامات إسرائيل واهمة إن كانت تظن أنها بهذه التصريحات تخيفنا وترعبنا. لقد جرّبت ذلك معنا من قبل خلال العدوان على غزة، وكانت المواجهات حامية الوطيس، وكل محاولات التقويض التي ظنت الشرطة الإسرائيلية أنها نجحت فيها، تكسّرت اليوم على أعتاب قتل حمدان". ليضيف آخر باللهجة العاميّة "منقول لنتنياهو، تصريحاتك الغبية بلّها واشرب ميتها". وتحدث شاب ثالث قائلاً "المواجهة بدأت الآن، ومن يهددنا ومن يقتلنا عليه أن يتحمل عواقب أعماله".
أما صفحات "فيسبوك" في الداخل الفلسطيني، فحملت الكثير من الغضب، ودعوات لتصعيد الاحتجاجات وإنجاح الإضراب العام والشامل والمسيرات الاحتجاجية، ولا سيما في ظل سهولة ضغط أفراد الشرطة على الزناد عندما يتعلق الأمر بالمواطنين العرب.
وكتب الناشط أحمد خليفة من خلال صفحته على "فيسبوك" أن "تصرفات وتصريحات وزراء الاحتلال هي تصريح واضح للشرطة بمزيد من القتل وليست مجرد تخويف، ومن واجب المهدَدين أمثالنا التكتل والدفاع عن أنفسهم بجميع الوسائل". وأضاف "اليوم سمعت تصريحات لبعض السياسيين (العرب) كأنما تعتذر وتقول نحن غير معنيين بالتصعيد والسؤال هنا لماذا؟ من الذي يجب أن يخجل ويعتذر ولا يصعّد، نحن أم إسرائيل؟ وخلص إلى القول "خبر جيد وحيد من كل هذا، أن تهديد نتنياهو بسحب الهوية الزرقاء، يريحنا من معضلات عدة ويسهّل عملية التواصل الحقيقي مع باقي شعبنا. وببساطة لا يوجد أي ميزة لهذه الوثيقة أو أفضلية عن أهل القدس والجولان مثلاً". أما الناشط عبد الله مريح فكتب "ثمنكم رصاصة ونسترد ثمنها منكم من حيث لا تعلمون".
وتساءل الدكتور عزيز بقاعي "لماذا لم تطلق الشرطة ورجال الأمن النار على قاتل رئيس الحكومة (يتسحاق) رابين قبل 19 عاماً وتزيّنت بالصبر ولم تهدم بيته ولم تسحب هويته؟"، قبل أن يضيف "فقط في دولة عنصرية، يكون مثلما كان، فهل هناك ذو ضمير في هذه الحكومة يستنكر ويتحمل أو يُحَمّل الحكومة مسؤولية القتل. أظن لا ولن يكون".
وكانت قيادات الداخل الفلسطيني قد استنكرت الجريمة البشعة. واعتبر النائب عن التجمع الوطني الديمقراطي، باسل غطاس، أن "هذه الهمجية التي انتهجها رجال الشرطة، ما هي إلا تنفيذ لسياسة وزير الأمن الداخلي يتسحاك أهرونوفيتش، والحكومة الإسرائيلية التي أعلنتها بوضوح قبل أيام عندما أوعز أهرونوفيتش بقتل وإعدام أي عربي يشكل أي تهديد لقوات الشرطة".
وأضاف غطاس "هذه الجريمة الخطيرة تؤكد مرة أخرى أننا بصدد التعامل مع شرطة استعمار تتعامل معنا كأعداء وليس كمواطنين".