تزامنت ذكرى نكبة فلسطين مع ظروف سياسية هي الأخطر على الشعب الفلسطيني، منذ بداية المشروع الصهيوني، حيث المحاولات الإسرائيلية لاستغلال الظروف لتطبيق صفقة القرن، وخاصة قرب الانتخابات الرئاسية الأميركية، والانقسام الفلسطيني، والتفكك العربي وانشغال العالم بقضايا أخرى.
تطرح الإدارة الأميركية الحالية لدونالد ترامب صفقة القرن، في وقت تشهد فيه الرواية الوطنية التاريخية الفلسطينية تشوهات، نتيجة لمسيرة سياسية مختلة، بدءاً بمؤتمر مدريد في عام 1991، ثم اتفاقية أوسلو في عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، والتي لم تعكس قناعات أميركية وإسرائيلية بحقوق الشعب الفلسطيني العادلة، بل استغلال لتلك المرحلة لإبقاء المنطقة برمتها في الفلك الأميركي، وتثبيت ودعم وجود إسرائيل قوية بالمنطقة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
بعد ربع قرن على اتفاقية أوسلو، يبدو أن منظمة التحرير الفلسطينية توجهت للمفاوضات بحسن نية، وبدون أوراق ضغط على إسرائيل، ومنها الانتفاضة الفلسطينية الأولى وحجم الأزمة التي سببتها لإسرائيل، ظناً من قيادة المنظمة أن إسرائيل فتحت صفحة جديدة وأن الصراع أوشك على نهايته، واقتربت الحلول السياسية.
بالمقابل، تبين أن إسرائيل توجهت للمفاوضات لتحقيق ما عجزت عنه الآلة العسكرية بالحروب، وتحطيم الشعب الفلسطيني وتفتيته ديمغرافياً وجغرافياً وسياسياً، لإحكام سيطرتها على فلسطين وتصفية قضيتها، وليس لمنح الفلسطينيين حقوقهم السياسية الوطنية المشروعة.
شكلت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية أول تشوهات الرواية الفلسطينية، إثر إدخالها للوعي الفلسطيني كوسيلة وحيده لحل القضية الفلسطينية، فيما واصلت إسرائيل سياساتها العدوانية من حروب وقتل وهدم للمنازل بينما ممنوع على الفلسطيني الدفاع عن نفسه، وواصلت إسرائيل اغتصاب الأراضي الفلسطينية، وإقامة المستعمرات وطرد الفلسطينيين، ومكنتها اتفاقية أوسلو من إبقاء سيطرتها على معظم مناطق الضفة الغربية، ووقعت القيادة الفلسطينية في فخ تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق (أ، ب، ج)، وإخراج القدس واللاجئين من اتفاقية أوسلو، وتركها لمفاوضات الوضع النهائي، وربط مصيرها بالقرار الإسرائيلي.
ألغت منظمة التحرير عدة مواد من الميثاق الوطني الفلسطيني، والتي تعرف إسرائيل والحركة الصهيونية، وفلسطين وحدودها وتاريخ الصراع والكفاح المسلح في الوعي والثقافة الوطنية الفلسطينية، بالمقابل لم تقدم إسرائيل لمنظمة التحرير سوى اعترافها بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، بدون أية اعترافات بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني من دولة أو تقرير للمصير وإنهاء للاحتلال وعودة لملايين الفلسطينيين اللاجئين، مما أوصلنا إلى وضع أصعب وأسوأ سياسياً ووطنياً واجتماعياً واقتصادياً مما كانت عليه الحالة عشية أوسلو.
استوعب الشعب الفلسطيني أن مسيرة السلام لم تكن سوى أوهام أرادت إسرائيل استغلالها لإحكام سيطرتها على فلسطين ومصادرة ثرواتها وحرمانها من مقومات الحياة الآدمية، وإبقاء الفلسطيني متعلقاً بإسرائيل في كل تفاصيل حياته، لذلك أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف مكوناتها ملزمة بالعودة للنضال المنهجي لاسترداد الرواية الوطنية التاريخية، وتوحيد الشعب الفلسطيني بعد أن مزقته الحدود السياسية المصطنعة والاتفاقيات، وتدعيم وتثبيت الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية بشتى الوسائل والاهتمام بالأرض والزراعة والمشاريع الصغيرة، وتقوية روابطه بالشتات والذين يشكلون نصف الشعب الفلسطيني، وتمتين انتماء الفلسطيني بالأرض، التي تشكل له الهوية والذاكرة.
ليس مطلوباً الآن إعلان الحرب على إسرائيل لاسترداد الرواية الوطنية الفلسطينية، بل المطلوب تبني المقاومة الشعبية شعارا وممارسة وزيادة أشكالها واتساع رقعتها لتشمل كل المناطق الفلسطينية، لإنهاء شعور الإسرائيليين بأن شوارع الضفة الغربية الأكثر أمنا وأمانا بالسنوات الماضية، وذلك بعد التخلي عن وهم حل الدولتين، حيث لم تبق إسرائيل مكانا لها، ورفض أي عودة للمفاوضات كأسلوب وحيد للحل، وإلغاء وهم التنمية الاقتصادية تحت الاحتلال، والذي أدى إلى تمسك السلطة بالتزاماتها الوظائفية، وأدت، حسب وصف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إلى تحويل الاحتلال لفندق خمس نجوم وأنه أرخص احتلال في العالم.
من تشوهات الرواية الوطنية ما يتعلق ببداية الصراع والاحتلال وأهم محطة في عام 1948 حين تعرض شعبنا لأكبر عملية سرقة واحتلال ومجازر وتهجير وإحلال، وليس في عام 1967، وفق الخطاب السياسي لمنظمة التحرير حول إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي وقع في حرب 1967، وأن فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر ومن الناقورة إلى أم رشرش، حتى وإن بدا صعب المنال في الظروف الحالية، ولكن تنازل منظمة التحرير الفلسطينية عن 78% من فلسطين التاريخية كان للحصول على 22% من فلسطين، ولكن بعد فشل أوسلو باتت القيادة الفلسطينية مطالبة بالعودة عن تنازلها وإعادة تعريف حدود فلسطين كما هي وليس الضفة والقطاع، وتعريف الشعب الفلسطيني على أنه الموجود في فلسطين التاريخية والشتات وليس الموجودين في مناطق السلطة الفلسطينية فقط.
على صعيد العلاقة مع إسرائيل، أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية مطالبة، وفي مقدمتها السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بتنفيذ قرارات المجلسين المركزي والوطني، وأولها إلغاء اعترافها بإسرائيل، إضافة لقرار الرئيس محمود عباس بالتنصل من كل الاتفاقيات معها، وأن تعيد تعريف إسرائيل على أنها كيان استعماري استيطاني عنصري والعدو الوحيد للشعب الفلسطيني، وخاصة أن الجيل الفلسطيني الجديد لم يعد يسمع بالكثير من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية ولا حتى في النقاش العام تعريف إسرائيل على أنها عدو أو أنها الخطر الأكبر على الشعب الفلسطيني والمنطقة، مما سهل استيعابها بالوعي الفلسطيني والعربي كما تظهر تفاعلات كثيرين من الفلسطينيين والعرب على الصفحات الإسرائيلية، وليس فقط أنها قوة احتلال، وهذا يتطلب ليس وقف التنسيق الأمني فقط، إنما التوقف عن كل ما يصب في مصلحة مشروعها الاستعماري، ومحاربة الفساد والمحسوبية والتي أثرت في مناعة الشعب الفلسطيني أكثر من إجراءات الاحتلال العسكرية والاقتصادية، وإعادة العمل النضالي الشعبي، خاصة أن مخزون الشعب الفلسطيني النضالي هائل، شريطة ألا يشكل عبئا على الشعب الفلسطيني المطلوب دعم صموده وبقائه طالما أن بقاءه يشكل حجر الأساس في الصراع مع الصهيونية، في مرحلة لم تعد الحلول السياسية ممكنة نهائيا، وإصلاح مؤسسات منظمة التحرير وسفاراتها في الخارج وإحداث تغييرات جوهرية في كوادرها الوطنية المثقفة الواعية، مع تبني منظمة التحرير حملات المقاطعة الدولية الثقافية والاقتصادية وسحب الاستثمارات من إسرائيل، وليس فقط من المستوطنات الإسرائيلية، وإعادة ثقة كل الجماعات وقوى السلام العالمية بالنضال الفلسطيني بعد أن تراجع في الأعوام الماضية، ومطالبتها أيضا بنزع الشرعية عن إسرائيل وليس مقاطعتها فقط، وهذا يعتبر سلاحاً حاداً جداً ضد إسرائيل والتي تحسب له ألف حساب، طالما أنها تنكرت لكافة حقوق الشعب الفلسطيني السياسية الجمعية، وهذا لا يتناقض مع التنسيق والعمل مع إسرائيل بحكم الواقع لتسيير أمور الشعب الفلسطيني الحياتية التي باتت تحت منظومة السيطرة والتحكم الإسرائيلية.
عمل البعض على أن تصبح السلطة الوطنية الفلسطينية نواة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967، رغم أن اتفاقية أوسلو لم تتضمن أية إشارة إلى دولة فلسطينية، ولكن بعد أن تأكد أصحاب مشروع حل الدولتين أنه لم يكن سوى جزء من عملية الوهم المرتبطة بسياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة بإدارة الصراع لكسب الوقت وتفريغ السلطة ومنظمة التحرير من مضمونها الوطني والسياسي وتحويلها إلى كيان خدماتي أمني اقتصادي مرتبط بالقرار الإسرائيلي، ووجد الشعب الفلسطيني نفسه في ورطة كبيرة بعد ربع قرن، وقناعة الكل الفلسطيني بفشل أوسلو في تحقيق أهدافه، ولم يعد بالإمكان حل السلطة والعودة للحركة الوطنية التحررية بسبب التزاماتها المعقدة، ولا توجد أية احتمالية لأن تتطور السلطة مستقبلاً لتصبح دولة مستقلة، وأصبحت كياناً عازلاً وفاصلاً بين الاحتلال وبين الشعب الفلسطيني، فمن خلالها تقوم إسرائيل بتمرير سياساتها اتجاه الفلسطينيين، وبواسطتها يتم منع الردود الفلسطينية، لذلك بات مطلباً أن تقوم السلطة وقيادة منظمة التحرير بالعمل على أكثر من صعيد لاستعادة الرواية والسردية الوطنية الفلسطينية، وخاصة في ما يتعلق بالدور الوظيفي للسلطة، وخاصة ما يصب في مصلحة إسرائيل، لتكون جزءا من استراتيجية نضالية يشارك الشعب الفلسطيني فيها ويتحمل تبعاتها، في ظل ظروف صعبة فرضتها إسرائيل لكي تبقى السلطة والشعب الفلسطينيين تابعين لإسرائيل في كل التفاصيل، أما شعار حل السلطة وتسليم مفاتيحها، كما تحدث عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فيبدو أنه غير ممكن وأن طرحه يأتي في سياق الضغط على إسرائيل أو لإثارة الأطراف الدولية ذات الصلة، وأحيانا يتم الحديث فلسطينيا عن حل السلطة كتعبير عن اليأس وعدم الرضا عما وصلت إليه السلطة من حالة متردية.
إعادة بناء الحركة الوطنية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وإعادة الاعتبار لها، بعد أن تراجعت وحلت السلطة محلها في الكثير من الصلاحيات والجوانب، تفرض إصلاح الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة فتح التي تمر بأزمة عميقة داخلية، لا يمكن حلها طالما بقيت متمسكة بالسلطة لاعتبارات المزايا والمكتسبات، ثم إعادة ترتيب فصائل منظمة التحرير التي لم تعد منسجمة في الكثير من القضايا، والأهم من ذلك استيعاب حركتي الجهاد وحماس التي يجب أن تتخلى عن احتكار سلطة غزة لوحدها وتشكيل قيادة وطنية كما هي الحال مع ما تبقى من سلطة خدماتية في الضفة لتكون تحت قيادة وطنية مشتركة لتقديم خدماتها بعيدا عن الشأن السياسي والوطني الذي سيعود بالكامل لمنظمة التحرير، وانتخاب مجلس وطني جديد ومؤسسات منظمة التحرير لتكون قادرة على تمثيل الكل الفلسطيني في الوطن والشتات وإعادة صياغة مشروع تحرري ضمن خطة استراتيجية تعيد للنضال الوطني اعتباره لإحداث تغييرات في موازين القوى القائمة التي تركت بصماتها في كل تفاصيل العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية بما فيها تراجع في السردية الفلسطينية وتقدم في السردية الصهيونية.
على الصعيد العربي والدولي، أصبحت منظمة التحرير مطالبة بتغيير خطابها، وخصوصا فيما يتعلق بتطور علاقات بعض الأطراف العربية والإسلامية مع إسرائيل وشرعنة وجودها في فلسطين من مداخل دينية كما تحدثت شخصيات دينية سعودية، ومواجهة عمليات شيطنة الفلسطيني وتحميله مسؤولية إدامة الصراع وتبني السردية الصهيونية، سواء في أحقية إسرائيل بالوجود أو تحميل الفلسطيني مسؤولية ما يسمى إضاعة الفرص للتوصل للسلام المزعوم، والتي وصلت أخيرا لعرض مسلسلات رمضانية تجاوزت التطبيع مع إسرائيل لدرجة العبث والتخريب بالقضية، ورغم أن قيادة منظمة التحرير محقة في عدم الوقوع في الكمين الإسرائيلي والانجرار لمواجهات هامشية مع دول عربية، إلا أنه أصبح مطلوبا مصارحة تلك الأنظمة أن سياساتها تلحق الضرر الكبير بفلسطين، لعل وعسى أن يدفعها للتراجع وأن يحدث اختراقه في الشعوب العربية التي ما زالت أغلبيتها ترى القضية الفلسطينية قضيتها.
تتزامن ذكرى النكبة مع صفقة القرن وكذلك مع مرور 20 عاماً على هروب إسرائيل وجيشها من جنوب لبنان، تاركة خلفها أسلحتها ودباباتها وعملاءها، وبدون مفاوضات مع اللبنانيين، لتشكل درسا سياسيا للفلسطينيين وللمنطقة برمتها، أنه بعد تحول الاحتلال العسكري الصهيوني في لبنان إلى مشروع مكلف بشرياً واقتصادياً وسياسياً هربت إسرائيل بدون مفاوضات، مدعية التزامها بالحدود الدولية التي رسمتها الأمم المتحدة بالخط الأزرق، بعكس الحالة الفلسطينية ومنطق القوة الإسرائيلية ونجاح مشروعها الاستعماري الاستيطاني الذي جعلها تدوس على قرارات الأمم المتحدة وحدود 1967 وتقرر الضم، مما يفرض على القيادة الفلسطينية الاستمرار في ترجمة وتنفيذ ما أعلنه الرئيس محمود عباس قبل أيام بالتحلل من كافة الاتفاقيات مع إسرائيل والولايات ومغادرة مربع اللافعل للانطلاق باتجاه مرحلة مختلفة من الفعل تشارك فيها الجماهير والفصائل والسلطة وإحداث تغييرات عميقة في وظائف السلطة وعقيدتها الأمنية، وإشراك فلسطينيي الشتات وكل القوى العربية والدولية الداعمة للحق الفلسطيني.
تطرح الإدارة الأميركية الحالية لدونالد ترامب صفقة القرن، في وقت تشهد فيه الرواية الوطنية التاريخية الفلسطينية تشوهات، نتيجة لمسيرة سياسية مختلة، بدءاً بمؤتمر مدريد في عام 1991، ثم اتفاقية أوسلو في عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، والتي لم تعكس قناعات أميركية وإسرائيلية بحقوق الشعب الفلسطيني العادلة، بل استغلال لتلك المرحلة لإبقاء المنطقة برمتها في الفلك الأميركي، وتثبيت ودعم وجود إسرائيل قوية بالمنطقة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
بعد ربع قرن على اتفاقية أوسلو، يبدو أن منظمة التحرير الفلسطينية توجهت للمفاوضات بحسن نية، وبدون أوراق ضغط على إسرائيل، ومنها الانتفاضة الفلسطينية الأولى وحجم الأزمة التي سببتها لإسرائيل، ظناً من قيادة المنظمة أن إسرائيل فتحت صفحة جديدة وأن الصراع أوشك على نهايته، واقتربت الحلول السياسية.
بالمقابل، تبين أن إسرائيل توجهت للمفاوضات لتحقيق ما عجزت عنه الآلة العسكرية بالحروب، وتحطيم الشعب الفلسطيني وتفتيته ديمغرافياً وجغرافياً وسياسياً، لإحكام سيطرتها على فلسطين وتصفية قضيتها، وليس لمنح الفلسطينيين حقوقهم السياسية الوطنية المشروعة.
شكلت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية أول تشوهات الرواية الفلسطينية، إثر إدخالها للوعي الفلسطيني كوسيلة وحيده لحل القضية الفلسطينية، فيما واصلت إسرائيل سياساتها العدوانية من حروب وقتل وهدم للمنازل بينما ممنوع على الفلسطيني الدفاع عن نفسه، وواصلت إسرائيل اغتصاب الأراضي الفلسطينية، وإقامة المستعمرات وطرد الفلسطينيين، ومكنتها اتفاقية أوسلو من إبقاء سيطرتها على معظم مناطق الضفة الغربية، ووقعت القيادة الفلسطينية في فخ تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق (أ، ب، ج)، وإخراج القدس واللاجئين من اتفاقية أوسلو، وتركها لمفاوضات الوضع النهائي، وربط مصيرها بالقرار الإسرائيلي.
ألغت منظمة التحرير عدة مواد من الميثاق الوطني الفلسطيني، والتي تعرف إسرائيل والحركة الصهيونية، وفلسطين وحدودها وتاريخ الصراع والكفاح المسلح في الوعي والثقافة الوطنية الفلسطينية، بالمقابل لم تقدم إسرائيل لمنظمة التحرير سوى اعترافها بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، بدون أية اعترافات بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني من دولة أو تقرير للمصير وإنهاء للاحتلال وعودة لملايين الفلسطينيين اللاجئين، مما أوصلنا إلى وضع أصعب وأسوأ سياسياً ووطنياً واجتماعياً واقتصادياً مما كانت عليه الحالة عشية أوسلو.
استوعب الشعب الفلسطيني أن مسيرة السلام لم تكن سوى أوهام أرادت إسرائيل استغلالها لإحكام سيطرتها على فلسطين ومصادرة ثرواتها وحرمانها من مقومات الحياة الآدمية، وإبقاء الفلسطيني متعلقاً بإسرائيل في كل تفاصيل حياته، لذلك أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف مكوناتها ملزمة بالعودة للنضال المنهجي لاسترداد الرواية الوطنية التاريخية، وتوحيد الشعب الفلسطيني بعد أن مزقته الحدود السياسية المصطنعة والاتفاقيات، وتدعيم وتثبيت الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية بشتى الوسائل والاهتمام بالأرض والزراعة والمشاريع الصغيرة، وتقوية روابطه بالشتات والذين يشكلون نصف الشعب الفلسطيني، وتمتين انتماء الفلسطيني بالأرض، التي تشكل له الهوية والذاكرة.
ليس مطلوباً الآن إعلان الحرب على إسرائيل لاسترداد الرواية الوطنية الفلسطينية، بل المطلوب تبني المقاومة الشعبية شعارا وممارسة وزيادة أشكالها واتساع رقعتها لتشمل كل المناطق الفلسطينية، لإنهاء شعور الإسرائيليين بأن شوارع الضفة الغربية الأكثر أمنا وأمانا بالسنوات الماضية، وذلك بعد التخلي عن وهم حل الدولتين، حيث لم تبق إسرائيل مكانا لها، ورفض أي عودة للمفاوضات كأسلوب وحيد للحل، وإلغاء وهم التنمية الاقتصادية تحت الاحتلال، والذي أدى إلى تمسك السلطة بالتزاماتها الوظائفية، وأدت، حسب وصف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إلى تحويل الاحتلال لفندق خمس نجوم وأنه أرخص احتلال في العالم.
من تشوهات الرواية الوطنية ما يتعلق ببداية الصراع والاحتلال وأهم محطة في عام 1948 حين تعرض شعبنا لأكبر عملية سرقة واحتلال ومجازر وتهجير وإحلال، وليس في عام 1967، وفق الخطاب السياسي لمنظمة التحرير حول إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي وقع في حرب 1967، وأن فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر ومن الناقورة إلى أم رشرش، حتى وإن بدا صعب المنال في الظروف الحالية، ولكن تنازل منظمة التحرير الفلسطينية عن 78% من فلسطين التاريخية كان للحصول على 22% من فلسطين، ولكن بعد فشل أوسلو باتت القيادة الفلسطينية مطالبة بالعودة عن تنازلها وإعادة تعريف حدود فلسطين كما هي وليس الضفة والقطاع، وتعريف الشعب الفلسطيني على أنه الموجود في فلسطين التاريخية والشتات وليس الموجودين في مناطق السلطة الفلسطينية فقط.
على صعيد العلاقة مع إسرائيل، أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية مطالبة، وفي مقدمتها السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بتنفيذ قرارات المجلسين المركزي والوطني، وأولها إلغاء اعترافها بإسرائيل، إضافة لقرار الرئيس محمود عباس بالتنصل من كل الاتفاقيات معها، وأن تعيد تعريف إسرائيل على أنها كيان استعماري استيطاني عنصري والعدو الوحيد للشعب الفلسطيني، وخاصة أن الجيل الفلسطيني الجديد لم يعد يسمع بالكثير من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية ولا حتى في النقاش العام تعريف إسرائيل على أنها عدو أو أنها الخطر الأكبر على الشعب الفلسطيني والمنطقة، مما سهل استيعابها بالوعي الفلسطيني والعربي كما تظهر تفاعلات كثيرين من الفلسطينيين والعرب على الصفحات الإسرائيلية، وليس فقط أنها قوة احتلال، وهذا يتطلب ليس وقف التنسيق الأمني فقط، إنما التوقف عن كل ما يصب في مصلحة مشروعها الاستعماري، ومحاربة الفساد والمحسوبية والتي أثرت في مناعة الشعب الفلسطيني أكثر من إجراءات الاحتلال العسكرية والاقتصادية، وإعادة العمل النضالي الشعبي، خاصة أن مخزون الشعب الفلسطيني النضالي هائل، شريطة ألا يشكل عبئا على الشعب الفلسطيني المطلوب دعم صموده وبقائه طالما أن بقاءه يشكل حجر الأساس في الصراع مع الصهيونية، في مرحلة لم تعد الحلول السياسية ممكنة نهائيا، وإصلاح مؤسسات منظمة التحرير وسفاراتها في الخارج وإحداث تغييرات جوهرية في كوادرها الوطنية المثقفة الواعية، مع تبني منظمة التحرير حملات المقاطعة الدولية الثقافية والاقتصادية وسحب الاستثمارات من إسرائيل، وليس فقط من المستوطنات الإسرائيلية، وإعادة ثقة كل الجماعات وقوى السلام العالمية بالنضال الفلسطيني بعد أن تراجع في الأعوام الماضية، ومطالبتها أيضا بنزع الشرعية عن إسرائيل وليس مقاطعتها فقط، وهذا يعتبر سلاحاً حاداً جداً ضد إسرائيل والتي تحسب له ألف حساب، طالما أنها تنكرت لكافة حقوق الشعب الفلسطيني السياسية الجمعية، وهذا لا يتناقض مع التنسيق والعمل مع إسرائيل بحكم الواقع لتسيير أمور الشعب الفلسطيني الحياتية التي باتت تحت منظومة السيطرة والتحكم الإسرائيلية.
عمل البعض على أن تصبح السلطة الوطنية الفلسطينية نواة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967، رغم أن اتفاقية أوسلو لم تتضمن أية إشارة إلى دولة فلسطينية، ولكن بعد أن تأكد أصحاب مشروع حل الدولتين أنه لم يكن سوى جزء من عملية الوهم المرتبطة بسياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة بإدارة الصراع لكسب الوقت وتفريغ السلطة ومنظمة التحرير من مضمونها الوطني والسياسي وتحويلها إلى كيان خدماتي أمني اقتصادي مرتبط بالقرار الإسرائيلي، ووجد الشعب الفلسطيني نفسه في ورطة كبيرة بعد ربع قرن، وقناعة الكل الفلسطيني بفشل أوسلو في تحقيق أهدافه، ولم يعد بالإمكان حل السلطة والعودة للحركة الوطنية التحررية بسبب التزاماتها المعقدة، ولا توجد أية احتمالية لأن تتطور السلطة مستقبلاً لتصبح دولة مستقلة، وأصبحت كياناً عازلاً وفاصلاً بين الاحتلال وبين الشعب الفلسطيني، فمن خلالها تقوم إسرائيل بتمرير سياساتها اتجاه الفلسطينيين، وبواسطتها يتم منع الردود الفلسطينية، لذلك بات مطلباً أن تقوم السلطة وقيادة منظمة التحرير بالعمل على أكثر من صعيد لاستعادة الرواية والسردية الوطنية الفلسطينية، وخاصة في ما يتعلق بالدور الوظيفي للسلطة، وخاصة ما يصب في مصلحة إسرائيل، لتكون جزءا من استراتيجية نضالية يشارك الشعب الفلسطيني فيها ويتحمل تبعاتها، في ظل ظروف صعبة فرضتها إسرائيل لكي تبقى السلطة والشعب الفلسطينيين تابعين لإسرائيل في كل التفاصيل، أما شعار حل السلطة وتسليم مفاتيحها، كما تحدث عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فيبدو أنه غير ممكن وأن طرحه يأتي في سياق الضغط على إسرائيل أو لإثارة الأطراف الدولية ذات الصلة، وأحيانا يتم الحديث فلسطينيا عن حل السلطة كتعبير عن اليأس وعدم الرضا عما وصلت إليه السلطة من حالة متردية.
إعادة بناء الحركة الوطنية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وإعادة الاعتبار لها، بعد أن تراجعت وحلت السلطة محلها في الكثير من الصلاحيات والجوانب، تفرض إصلاح الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة فتح التي تمر بأزمة عميقة داخلية، لا يمكن حلها طالما بقيت متمسكة بالسلطة لاعتبارات المزايا والمكتسبات، ثم إعادة ترتيب فصائل منظمة التحرير التي لم تعد منسجمة في الكثير من القضايا، والأهم من ذلك استيعاب حركتي الجهاد وحماس التي يجب أن تتخلى عن احتكار سلطة غزة لوحدها وتشكيل قيادة وطنية كما هي الحال مع ما تبقى من سلطة خدماتية في الضفة لتكون تحت قيادة وطنية مشتركة لتقديم خدماتها بعيدا عن الشأن السياسي والوطني الذي سيعود بالكامل لمنظمة التحرير، وانتخاب مجلس وطني جديد ومؤسسات منظمة التحرير لتكون قادرة على تمثيل الكل الفلسطيني في الوطن والشتات وإعادة صياغة مشروع تحرري ضمن خطة استراتيجية تعيد للنضال الوطني اعتباره لإحداث تغييرات في موازين القوى القائمة التي تركت بصماتها في كل تفاصيل العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية بما فيها تراجع في السردية الفلسطينية وتقدم في السردية الصهيونية.
على الصعيد العربي والدولي، أصبحت منظمة التحرير مطالبة بتغيير خطابها، وخصوصا فيما يتعلق بتطور علاقات بعض الأطراف العربية والإسلامية مع إسرائيل وشرعنة وجودها في فلسطين من مداخل دينية كما تحدثت شخصيات دينية سعودية، ومواجهة عمليات شيطنة الفلسطيني وتحميله مسؤولية إدامة الصراع وتبني السردية الصهيونية، سواء في أحقية إسرائيل بالوجود أو تحميل الفلسطيني مسؤولية ما يسمى إضاعة الفرص للتوصل للسلام المزعوم، والتي وصلت أخيرا لعرض مسلسلات رمضانية تجاوزت التطبيع مع إسرائيل لدرجة العبث والتخريب بالقضية، ورغم أن قيادة منظمة التحرير محقة في عدم الوقوع في الكمين الإسرائيلي والانجرار لمواجهات هامشية مع دول عربية، إلا أنه أصبح مطلوبا مصارحة تلك الأنظمة أن سياساتها تلحق الضرر الكبير بفلسطين، لعل وعسى أن يدفعها للتراجع وأن يحدث اختراقه في الشعوب العربية التي ما زالت أغلبيتها ترى القضية الفلسطينية قضيتها.
تتزامن ذكرى النكبة مع صفقة القرن وكذلك مع مرور 20 عاماً على هروب إسرائيل وجيشها من جنوب لبنان، تاركة خلفها أسلحتها ودباباتها وعملاءها، وبدون مفاوضات مع اللبنانيين، لتشكل درسا سياسيا للفلسطينيين وللمنطقة برمتها، أنه بعد تحول الاحتلال العسكري الصهيوني في لبنان إلى مشروع مكلف بشرياً واقتصادياً وسياسياً هربت إسرائيل بدون مفاوضات، مدعية التزامها بالحدود الدولية التي رسمتها الأمم المتحدة بالخط الأزرق، بعكس الحالة الفلسطينية ومنطق القوة الإسرائيلية ونجاح مشروعها الاستعماري الاستيطاني الذي جعلها تدوس على قرارات الأمم المتحدة وحدود 1967 وتقرر الضم، مما يفرض على القيادة الفلسطينية الاستمرار في ترجمة وتنفيذ ما أعلنه الرئيس محمود عباس قبل أيام بالتحلل من كافة الاتفاقيات مع إسرائيل والولايات ومغادرة مربع اللافعل للانطلاق باتجاه مرحلة مختلفة من الفعل تشارك فيها الجماهير والفصائل والسلطة وإحداث تغييرات عميقة في وظائف السلطة وعقيدتها الأمنية، وإشراك فلسطينيي الشتات وكل القوى العربية والدولية الداعمة للحق الفلسطيني.