31 أكتوبر 2024
فلسطين من الثورة إلى اللادولة
عندما قرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وفّر كل عناصر اشتعال الوضع، وأقام حاجزا سميكا غير مسبوق أمام عملية السلام المشلولة. وعلى الرغم من خطورة القرار، ودلالته المستفزة، وحمولته الباعثة على القلق، فإن ترامب تمادى في تدمير فرص السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبر العمل على خنق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) وتفكيكها، وهي التي شكّلت، على مدى عقود، ملاذا للاجئين الفلسطينيين في الداخل، وفي دول الجوار، ومثلت لدى سكان المخيمات الأداة الوحيدة للحصول على المعرفة والتعليم. وقد يقضي وقف ترامب مساهمة بلاده في تمويل "أونروا" على أحلام أطفال وشباب كثيرين في المخيمات الفلسطينية.
وإذا ما أضيف إلى المواقف الكثيرة لدى إدارة ترامب، السلبية والمعوقة للتفاوض البناء والفعال، قرارها إغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، فإن الخلاصة المنطقية أن السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب تشكل عاملا أساسيا في تكريس حالة عدم الاستقرار والاضطراب، وعائقا ضخما أمام أي محاولة لتسوية نزاعات الشرق الأوسط، وتهديدا للنظام العالمي. ولا ينسى أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس تزامن مع إحياء الفلسطينيين ذكرى النكبة بقيام دولة إسرائيل عام 1948. ولم يكن هذا التزامن اعتباطيا، بل أراد ترامب أن ينقل إلى العالم رسالة مفادها بأن إدارته تعتبر ما ارتكبته إسرائيل من جرائم، وما اقترفته من مجازر جماعية، وما دمرته وما أحرقته من قرى وبلدات، حقّ مشروع وتاريخي للشعب اليهودي، وأن هذه الدولة قامت لتنشر قيم الديمقراطية والتقدّم والسلام وسط صحراء من التخلف وأعداء التقدم، وذلك في انحياز تام لإسرائيل ودفاع مستميت عن أخطائها وسياستها القمعية الاستئصالية تجاه الفلسطينيين. ومعروف أن الإدارة الأميركية وقفت، وما زالت تقف، بالمرصاد في وجه أي لجنة تقصّي الحقائق والتحقيق في هذه الجرائم.
يكشف الإيقاع الذي تسير به السياسة الخارجية الأميركية حاليا أن الرئيس ترامب يسارع إلى زجّ العالم في بحرٍ من الفوضى لا ضفاف له. وفي منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت معادلا للاضطراب، وعدم الاستقرار والحروب والنزاعات الناشبة في أكثر من بلد، أصبح الاختيار بين مطرقة السياسة الهجومية وغير المسؤولة للبيت الأبيض، أو سندان دبلوماسية الدول المضادة للديمقراطية من وجهة نظر أميركية، إيران وتركيا وروسيا، حيث للانتقام من التاريخ هنا دلالة قوية، خصوصا أن تحرّكه له خلفيات إيديولوجية، ومصالح إستراتيجية، ورغبة جامحة في امتلاك العالم، والتحكّم في تحديد مساراته ومآلاته.
يحدث هذا بعد مرور ربع قرن من التوقيع على اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل) في حديقة البيت الأبيض. وعلى الرغم من التباس نص ذلك الاتفاق، كان هناك أمل في انبثاق مرحلة جديد في الشرق الأوسط، لكن الآمال تبخّرت بسرعة، بسبب تصلب إسرائيل وتشدّدها، وعدم حيادية الوسيط أو الراعي الأميركي، ما أجل تطبيق تفاهمات "أوسلو"، وتم تعديل المضمون وتكييفه وفق الأغراض الإسرائيلية.
تواصلت سياسة الاستيطان، لتزيد في خنق المساحة المحدودة أصلا للفلسطينيين. ومن ذلك أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي دشنت مستوطنة جديدة سمتها معاليه زيتيم، وتضم 60 منزلاً وسط حي رأس العامود في القدس الشرقية، بعد الاستيلاء بالقوة على هذه المنازل عام 2003. وتزامن هذا التدشين مع مواصلة قوات الاحتلال عمليات تدمير المنازل والمزارع، واعتقال مواطنين فلسطينيين في عدة مناطق.
الانزياح الخطير في السياسة الخارجية الأميركية، ورفض الحكومة الإسرائيلية القبول بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالجلاء عن كل الأراضي التي احتلتها عام 1967، ورفضها الصريح حق اللاجئين في العودة، واعتبارها القدس، بشطريها الشرقي والغربي، عاصمة أبديةً لكيانها، يعتبر بمثابة تفخيخ وعملية تفجير لما تبقى من أوهام السلام، ويحدُث هذا في ظل وضع عربي مطبوعٍ بالتفكك والتمزّق والصراع والعجز السياسي والمؤسسي التام، وانهيار كل المشاريع والأحلام التي راودت أجيالا كثيرة.
يرى الحكماء الأكثر واقعية وبراغماتية أنه إذا كان مسلسل "أوسلو" قد أقبر كليا، فإنه ليس هناك من خيار أو بديل سوى تعايش الدولتين. وهذا ما دفع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد إلى أن يكتب وقتها "إن التنازلات من جانب واحد، ومن القيادة الفلسطينية ،لا تهيئ أرضية للسلام، بل على العكس من ذلك، علما أن السلام ضروري أكثر من أي وقت مضى، وأن النضال المشترك للشعبين هو ما سيمكّن من بلورة حل للنزاع"، واعتبر في مقال له عنوانه "خطر خضوع أبدي" أن "أوسلو" صفت كل إنجازات الانتفاضة الفلسطينية وإيجابياتها. واعتبر أنه ليس هناك من معنى لتقرير المصير سوى إذا قاد الفلسطينيين إلى الحرية والسيادة والعدالة، وليس إلى خضوع دائم لإسرائيل، علما أن مسؤولين فلسطينيين حاولوا تقديم الاتفاق انتصارا.
.. عندما كنت أنجز، في عام 1996، برنامجا وثائقيا بعنوان "فلسطين من الثورة إلى الدولة"، لفائدة القناة الثانية المغربية، التقيت مسؤولين فلسطينيين، منهم رئيس الوفد الفلسطيني في مفاوضات مدريد، الراحل حيدر عبد الشافي، استقبلني في مستشفى المقاصد في قطاع غزة. قال لي "كنت مستاءً، ولا أدري لماذا بقينا خارج ما يجري خلف الستار. هذا فيه انتهاك لمبادئ العمل. كنت سأكون سعيدا لو استجاب اتفاق أوسلو لمتطلبات السلام. ولكن لاحظت، منذ البداية، أنه اتفاق سيئ، فأبعدت نفسي. لم أشهد حفل توقيعه، ولا شاركت في أي من
المفاوضات الأساسية بعده". وأضاف "ما تم تحقيقه أقل بكثير مما كنا نأمل. قضية السلام تقتضي الاستجابة للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. بالنسبة لنا تعني الوصول إلى حقنا في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحقوق اللاجئين، كما نصت عليها قرارات الأمم المتحدة. لست متفائلا، ولا تقدّم حقيقيا قد تم. إسرائيل تقيم الحقائق على الأرض لصالحها ولصالح المستوطنات، على الرغم من انسحابها من الأراضي المأهولة. إسرائيل هي التي أرادت تحديد صورة الوضع النهائي كما تريده هي". وكان الروائي الإسرائيلي، عاموس عوز، الذي ينتمي إلى معسكر الحمائم قد قال لإذاعة بي. بي. سي في سبتمبر/ أيلول 1993، إن اتفاق أوسلو هو النصر الثاني الكبير للحركة الصهيونية.
ما تأكّد بعد كل هذه السنوات التي مرت على توقيع اتفاقية أوسلو، وما تلاها من تفاهمات وبروتوكولا، أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت مقاومة شعبية شاملة، ودفاعا عن حقوق ثابتة وعادلة، وأرغمت إسرائيل على الانسحاب من عدد من المناطق. وفيما كان الفلسطينيون يحلمون بدولة مستقلة، وذات سيادة وبمؤسسات ديمقراطية، وبوحدة وطنية قوية، وبعيش كريم بعيدا عن الإذلال والاحتقار والإهانة اليومية، فإنهم الآن يُصدمون بالواقع المر، ذلك أن إسرائيل لم تتوقف عن سياسة الاحتلال والضم والتهويد وبناء المستوطنات، وإقامة جدار الفصل العنصري علامة جليّة على مفهومها لعملية السلام والتعايش، تتحكّم في كل شيء، في الحدود وفي المعابر والبر والبحر والجو، والاقتصاد والصادرات والواردات، وعملتها (الشيكل) هي المتداولة، و80% من العمال الفلسطينيين يشتغلون في المعامل الإسرائيلية، وإسرائيل هي التي تتصرف في المياه والطاقة، وبإمكانها منع أي مسؤول فلسطيني من السفر إلى الخارج، أو الدخول إلى أراضي السلطة الفلسطينية. وفي المقابل، تصدّعت الوحدة الوطنية الفلسطينية، واندلع الصراع بين حركتي فتح وحماس، وانتشر اليأس والإحباط في المجتمع الفلسطيني، خصوصا في محيط عربي مخرّب وقاتم، وكلما كبر الحلم الإسرائيلي وامتد، صغر الحلم الفلسطيني وتقلص.
وإذا ما أضيف إلى المواقف الكثيرة لدى إدارة ترامب، السلبية والمعوقة للتفاوض البناء والفعال، قرارها إغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، فإن الخلاصة المنطقية أن السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب تشكل عاملا أساسيا في تكريس حالة عدم الاستقرار والاضطراب، وعائقا ضخما أمام أي محاولة لتسوية نزاعات الشرق الأوسط، وتهديدا للنظام العالمي. ولا ينسى أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس تزامن مع إحياء الفلسطينيين ذكرى النكبة بقيام دولة إسرائيل عام 1948. ولم يكن هذا التزامن اعتباطيا، بل أراد ترامب أن ينقل إلى العالم رسالة مفادها بأن إدارته تعتبر ما ارتكبته إسرائيل من جرائم، وما اقترفته من مجازر جماعية، وما دمرته وما أحرقته من قرى وبلدات، حقّ مشروع وتاريخي للشعب اليهودي، وأن هذه الدولة قامت لتنشر قيم الديمقراطية والتقدّم والسلام وسط صحراء من التخلف وأعداء التقدم، وذلك في انحياز تام لإسرائيل ودفاع مستميت عن أخطائها وسياستها القمعية الاستئصالية تجاه الفلسطينيين. ومعروف أن الإدارة الأميركية وقفت، وما زالت تقف، بالمرصاد في وجه أي لجنة تقصّي الحقائق والتحقيق في هذه الجرائم.
يكشف الإيقاع الذي تسير به السياسة الخارجية الأميركية حاليا أن الرئيس ترامب يسارع إلى زجّ العالم في بحرٍ من الفوضى لا ضفاف له. وفي منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت معادلا للاضطراب، وعدم الاستقرار والحروب والنزاعات الناشبة في أكثر من بلد، أصبح الاختيار بين مطرقة السياسة الهجومية وغير المسؤولة للبيت الأبيض، أو سندان دبلوماسية الدول المضادة للديمقراطية من وجهة نظر أميركية، إيران وتركيا وروسيا، حيث للانتقام من التاريخ هنا دلالة قوية، خصوصا أن تحرّكه له خلفيات إيديولوجية، ومصالح إستراتيجية، ورغبة جامحة في امتلاك العالم، والتحكّم في تحديد مساراته ومآلاته.
يحدث هذا بعد مرور ربع قرن من التوقيع على اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل) في حديقة البيت الأبيض. وعلى الرغم من التباس نص ذلك الاتفاق، كان هناك أمل في انبثاق مرحلة جديد في الشرق الأوسط، لكن الآمال تبخّرت بسرعة، بسبب تصلب إسرائيل وتشدّدها، وعدم حيادية الوسيط أو الراعي الأميركي، ما أجل تطبيق تفاهمات "أوسلو"، وتم تعديل المضمون وتكييفه وفق الأغراض الإسرائيلية.
تواصلت سياسة الاستيطان، لتزيد في خنق المساحة المحدودة أصلا للفلسطينيين. ومن ذلك أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي دشنت مستوطنة جديدة سمتها معاليه زيتيم، وتضم 60 منزلاً وسط حي رأس العامود في القدس الشرقية، بعد الاستيلاء بالقوة على هذه المنازل عام 2003. وتزامن هذا التدشين مع مواصلة قوات الاحتلال عمليات تدمير المنازل والمزارع، واعتقال مواطنين فلسطينيين في عدة مناطق.
الانزياح الخطير في السياسة الخارجية الأميركية، ورفض الحكومة الإسرائيلية القبول بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالجلاء عن كل الأراضي التي احتلتها عام 1967، ورفضها الصريح حق اللاجئين في العودة، واعتبارها القدس، بشطريها الشرقي والغربي، عاصمة أبديةً لكيانها، يعتبر بمثابة تفخيخ وعملية تفجير لما تبقى من أوهام السلام، ويحدُث هذا في ظل وضع عربي مطبوعٍ بالتفكك والتمزّق والصراع والعجز السياسي والمؤسسي التام، وانهيار كل المشاريع والأحلام التي راودت أجيالا كثيرة.
يرى الحكماء الأكثر واقعية وبراغماتية أنه إذا كان مسلسل "أوسلو" قد أقبر كليا، فإنه ليس هناك من خيار أو بديل سوى تعايش الدولتين. وهذا ما دفع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد إلى أن يكتب وقتها "إن التنازلات من جانب واحد، ومن القيادة الفلسطينية ،لا تهيئ أرضية للسلام، بل على العكس من ذلك، علما أن السلام ضروري أكثر من أي وقت مضى، وأن النضال المشترك للشعبين هو ما سيمكّن من بلورة حل للنزاع"، واعتبر في مقال له عنوانه "خطر خضوع أبدي" أن "أوسلو" صفت كل إنجازات الانتفاضة الفلسطينية وإيجابياتها. واعتبر أنه ليس هناك من معنى لتقرير المصير سوى إذا قاد الفلسطينيين إلى الحرية والسيادة والعدالة، وليس إلى خضوع دائم لإسرائيل، علما أن مسؤولين فلسطينيين حاولوا تقديم الاتفاق انتصارا.
.. عندما كنت أنجز، في عام 1996، برنامجا وثائقيا بعنوان "فلسطين من الثورة إلى الدولة"، لفائدة القناة الثانية المغربية، التقيت مسؤولين فلسطينيين، منهم رئيس الوفد الفلسطيني في مفاوضات مدريد، الراحل حيدر عبد الشافي، استقبلني في مستشفى المقاصد في قطاع غزة. قال لي "كنت مستاءً، ولا أدري لماذا بقينا خارج ما يجري خلف الستار. هذا فيه انتهاك لمبادئ العمل. كنت سأكون سعيدا لو استجاب اتفاق أوسلو لمتطلبات السلام. ولكن لاحظت، منذ البداية، أنه اتفاق سيئ، فأبعدت نفسي. لم أشهد حفل توقيعه، ولا شاركت في أي من
ما تأكّد بعد كل هذه السنوات التي مرت على توقيع اتفاقية أوسلو، وما تلاها من تفاهمات وبروتوكولا، أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت مقاومة شعبية شاملة، ودفاعا عن حقوق ثابتة وعادلة، وأرغمت إسرائيل على الانسحاب من عدد من المناطق. وفيما كان الفلسطينيون يحلمون بدولة مستقلة، وذات سيادة وبمؤسسات ديمقراطية، وبوحدة وطنية قوية، وبعيش كريم بعيدا عن الإذلال والاحتقار والإهانة اليومية، فإنهم الآن يُصدمون بالواقع المر، ذلك أن إسرائيل لم تتوقف عن سياسة الاحتلال والضم والتهويد وبناء المستوطنات، وإقامة جدار الفصل العنصري علامة جليّة على مفهومها لعملية السلام والتعايش، تتحكّم في كل شيء، في الحدود وفي المعابر والبر والبحر والجو، والاقتصاد والصادرات والواردات، وعملتها (الشيكل) هي المتداولة، و80% من العمال الفلسطينيين يشتغلون في المعامل الإسرائيلية، وإسرائيل هي التي تتصرف في المياه والطاقة، وبإمكانها منع أي مسؤول فلسطيني من السفر إلى الخارج، أو الدخول إلى أراضي السلطة الفلسطينية. وفي المقابل، تصدّعت الوحدة الوطنية الفلسطينية، واندلع الصراع بين حركتي فتح وحماس، وانتشر اليأس والإحباط في المجتمع الفلسطيني، خصوصا في محيط عربي مخرّب وقاتم، وكلما كبر الحلم الإسرائيلي وامتد، صغر الحلم الفلسطيني وتقلص.