فلسفة عم أيوب
فلسفة أسهل بكثير من وجودية سارتر أو عبثية ألبير كامو، وأكثر سلاسة من عدمية نيتشه، فلسفة تشق طريقها إلى القلوب الثملة وخاصة ممن ينشغلون بالكلام في السياسة. بهذه الفلسفة استطعت أن أحصل على فرص عمل وأرقام أناس لهم صيت في الأوساط والأنحاء، وهي فلسفة "أيوب عبد الصبور" سائق التاكسي في ضواحي القاهرة القديمة، وكما هو اسمي، كانت فلسفتي:
"اصبر على الزبون صبر أيوب، الدنيا لا تريحه ولا المرتب يريحه ولا العيال الصغيرة تريحه ولا حتى مراته، لا أحد يسمع له لدرجة إن يمكن هو مايسمعش نفسه وهو قاعد لامؤاخذه في الحمام لأنه مشغول بحاجات أهم من كلامه، فيركب مع عم أيوب يسمعه ويريحه في التوصيلة اللي بعد منها يمكن ما نتلاقى".
وفي الحقيقة كل تلك الأبهة الفكرية والدماغ العالية لم تكن ابنة اللحظة، ولكنها ناتج تجارب قد عصفت ودوت بصريخها في أرجاء عقلي.. في بداية هذه المهنة البائسة كنت أحاول مع الركاب فأبادلهم الحوار لكن أجد القدر قد رماني بين وقعتين، إما كوني أحد الصعاليك الذين لا يفقهون شيئاً في الحياة لو كان رأيي يحمل جانبا مختلفا عن رأي الفاهمين الراكبين، والوقعة الثانية هي أني أحد المثقفين لمجرد موافقته في الرأي، فوضعتني هذه الجدالات السخيفة في مهب التساؤلات حتى تمنيت لو أن هنالك عازل مانع لصوت الراكب كي لا تُباح أي هرطقة.
"الدنيا بتغلى لكن أملي كبير"، بهذه الجملة افتتح الأستاذ مأمون كلامه عما وصفه بالاقتصاد المنتعش.. فقاطعته بقولي متبعاً فلسفتي عندما لمحت في نبرته أنه حانق على المجتمع فقلت: "صدقت والله يا أستاذ مأمون الاقتصاد في طريقه للإنعاش"..
فتابعني وبدأ يرمقني بنظرته وهو يعلي صوته: "إنعاش إيه يا أفندي، قصدك الانتعاش، اقتصادنا في حالة انتعاش إنت بتتابع الأخبار ولا نايم في العسل؟"..
فسرعان ما أدركت النكبة التي أزلفت تفكيري بها وبكل ثبات قُلت: "آه آه فعلاً يا أستاذنا، حتى كل الأساتذة المحترمين يركبوا مكانك هنا ويقولوا نفس الكلام"، ثم هدأ بركانه وكتم أنفاسه لثوان معدودة وبعدها بدأ يتحدث عن الخدمات التي يراها وتسهيل المرور ويبرهن في معادلة رياضية أهمية وضرورة توحيد الآراء، لكن كانت رحلته أقصر من قول إنجازات، لذا فالوقت لا يكفي لمزيد من الكلمات عن النعمة التي في أيدينا. ووصل الأستاذ مأمون لشقته في ميدان عابدين..
- كم الأجرة؟
- الحكومة قد وحدت أجرة التاكسي لأي مكان في المدينة عشرين جنيهاً. قلتها وأنا ألفظ آخر أنفاسي بعدما لعنت اليوم الذى اتبعت فيه فلسفتي.
- وحضرتك إن شاء الله مطيع جداً للحكومة، طيب حسابك على العداد.