فوضى الاحتلالات

02 يناير 2019
+ الخط -
تمرّ المنطقة العربية، في هذه الأيّام عموماً، بتعقيدات كبيرة، تصل ما بين اليمن ولبنان، في خيط طويلٍ متعرّج يشبك قضايا عالقة كثيرة. قد تكون تغريدة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على حسابه في "تويتر"، يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، من أفضل الإشارات نحو فهم بعض جوانب المشهد. قال الرئيس: "وافقت المملكة العربيّة السعوديّة على إنفاق الأموال اللازمة للمساعدة في إعادة إعمار سورية، بدلاً من الولايات المتحدة الأميركيّة.. أترون ذلك، أليس من الجيّد أن تقوم الدول فاحشة الثراء بالمساعدة في إعادة إعمار دول جيرانها بدلاً من دولة عظمى، الولايات المتحدة، التي تبعد خمسة آلاف ميل؟ شكراً للسعوديّة".
يبدو أنّ الرئيس القادم من ساحة رجال الأعمال أكثر صدقاً من أسلافه الذين جاءوا من مجتمعات السياسة التقليديّة. يتمتّع هذا الرجل بكمّ هائل من الصراحة، تصل أحياناً إلى حدّ الخروج على الأعراف السياسية والبروتوكولات التي تحكم تصرفات رؤساء الدول. لكنّه في المقابل أكثر وضوحاً وبساطة من كلّ من سبقوه من رؤساء. إنّه يجاهر علناً بما يفكّر به، أعجبنا، نحن الشعوب العربيّة، أم لم يعجبنا، وسواء أكانت مواقفه وتصرّفاته في مصلحتنا أم لا، فعلينا أن نقبل أنّه من أكثر الرؤساء الأميركيّين إثارة للجدل.
ثمّة أثمان تُدفع نتيجة تفاهمات دوليّة لا نعرف منها الكثير. بدايةُ انفراجٍ في مواقف الأطراف المتصارعة في اليمن، تمثّلت في جولةٍ يقوم بها الجنرال الهولندي، باتريك كومارت، رئيس لجنة إعادة الانتشار للإشراف على تطبيق اتفاق استوكهولم، المدعوم بقرار مجلس الأمن رقم 2451، ثمّ محاولات إنعاش مسألة تشكيل الحكومة اللبنانيّة المتواصلة منذ عدّة أشهر، وأخيراً قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قوّات بلاده من سورية.

من لديه تواصل مع الأشخاص الموجودين على الأرض في سورية يعرف أنّ القوّات المدعومة من روسيا تحرّكت فعلاً باتجاه مُدن البوكمال والميادين، قبل إعلان ترامب عن قراره بيومٍ. هذه القوّات التابعة للواء الثامن من الفيلق الخامس، والذي تشكّل من عناصر الفصائل المسلّحة الذين أجروا، أو بالأحرى أُجبروا، على إجراء المصالحات والتسويات مع النظام السوري، انتقلت من مدينة سلمى في جبال اللاذقيّة، ومن مناطق حوران في الجنوب.
يأخذُ الصراع على المصالح في المنطقة في الوقت الراهن أشكالاً شبه نهائيّة، وكلّ محور من المحاور المختلفة، التي تحالفت موضوعيّاً لكسر موجة الربيع العربي، بدأت سباق المسافات الطويلة، للحصول على المغانم، وهذا يجعل مباضع الجرّاحين ومناشرهم جاهزة للعمل. وثمن البقاء على كرسي الحكم يُفترض فيه أن يُسدّدَ الآن لمن ساعد على إبقاء النظام الرسمي في المنطقة على حاله. ثمّة من دفع أموالاً، وثمّة من دفع سيادةً، وسيتوجّبُ على كلا الصنفين الاستمرار في هذا البازار اللانهائي.
من يفتقد الشرعيّة الداخليّة والمشروعيّة في الحكم لا بدّ أن يسعى إلى استيرادها والحصول عليها من الدول الراعية، أنّى وجِدت. لهذا يجب أن يكون في حسبانه، باستمرار، أنّ الحماية ما عادت تمرّ أثمانها من تحت الطاولة، بل من فوقها مع كثير من الابتزاز والإهانة أحياناً، وهذا ما يبرع به رجل الأعمال الذي صار رئيساً.
يستخدم السياسيّون والدبلوماسيّون مصطلحات القانون الدولي وتعابيره، كلّما كان ذلك في مصلحة بلادهم، أو كلّما أرادوا تعزيز وجهات نظرهم في مقابل حجج خصومهم. فيمكن، على سبيل المثال، تعريف القانون الدولي بأنّه السياسة عندما تستخدم أدوات القانون، أو بأنّه السياسة عندما تتكلّم لغة القانون. لذلك نجد أنّ وزير الخارجيّة الروسي، سيرغي لافروف، كثيراً ما يستخدم تعابير القانون الدولي، سلاحا يرفعه في وجه خصوم بلاده، في الساحة السوريّة خصوصاً.
تتمسّك روسيا بالشرعيّة القانونيّة الدوليّة التي يتمتّع بها نظام الحكم في سورية، لتبرير وجود قوّاتها هناك، من خلال اتفاق تمّ إبرامه مع حكومةٍ تحظى بجميع مقاعدها في هيئة الأمم المتحدة والمنظّمات المنبثقة عنها. طبعاً لا تعني شرعيّة التدخّل أن في وسع أطرافه ممارسة ما يحلو لهم، لأنّ قواعد القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان تبقى سارية المفعول، بغضّ النظر عن شرعيّة النزاع المسلّح من عدمها.
في المقابل، لا تحتاج أميركا إلى ذرائع للتدخّل في شؤون غيرها من الدول، وخرق سيادتها، ومثال احتلال العراق ما يزال حاضراً في الأذهان، كما أنّها ليست في حاجة أيضاً لتبرير أفعالها، فهي القوّة العظمى في العالم التي لا تنتظر إذناً من أحد، تملك مفتاح إغلاق باب المحاسبة الدوليّة من خلال تمتّعها بحق النقض. ويمكن أن ينسحب الأمر نفسه، نظريّاً، على بقيّة الدول دائمة العضويّة في مجلس الأمن، مع التأكيد على اختلاف أحجامها وأوزانها، بالمقارنة مع وزن الولايات المتحدة الأميركيّة وفاعليتها.

من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى قرار الانسحاب الأميركي من سورية، فهي اللاعب الأقوى، حضرت أم غابت، لكنّها بكل تأكيد ما كانت لتنسحب من دون ترتيباتٍ مسبقةٍ مع روسيا وتركيا على الأقل، لأنّه كان واضحاً من ردود فعل المعنيّين بالأمر أنهم فوجئوا بالقرار، عدا الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، فقد كانا، على ما يبدو، على معرفة مسبقة به، مثل الحليف الأقرب رئيس وزراء إسرائيل، نتنياهو، الذي أعلن أنّه حاول ثني الرئيس ترامب عن قراره، لكنّه فشل في ذلك. مع هذا، سيجد قادة إسرائيل دوماً طريقهم لتصدير مشكلاتهم السياسيّة، وحتّى الشخصيّة، عبر صواريخهم وطائراتهم التي تسرح وتمرح في أجواء سورية ولبنان، تقصف ما تشاء ومتى تشاء.
من الحديدة في اليمن وصولاً إلى معبر فاطمة في جنوب لبنان، ثمّة سلسلة مترابطة من المصالح ستفرضُ، في النهاية، شكل المنطقة وتشكيلات اللاعبين فيها، ويبقى علينا أن ننتظر قادم الأيام، ليُنبئنا بما تحمله الرياح العاتيةُ، لأشرعة سفن شعوب المنطقة الغارقة في فوضى الاحتلالات، وإنّ غداً لناظره قريب.
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود