ذكرنا قبلاً أن هناك فارقاً شاسعاً في عدد الأميين العرب تبعاً لتقديرات كل من "ألكسو" و"يونسكو" ما يتراوح بين 50 و100 مليون أمي عربي. وهو ما يلقي ظلالاً داكنة على التعهدات الرسمية العربية لمواجهة حال الأمية. فالعقد العربي لمحو الأمية بين الاعوام 2015 – 2024 يتلاحق فيما أعداد الأميين ترتفع. أي أننا سنجد أنفسنا في خلال السنوات العشر المقدرة لمحو الأمية أمام تصاعد دراماتيكي لها. ما يؤشر إلى أن القضاء على الأمية بأشكالها "الأبجدية والرقمية والثقافية" بعيد المنال، إن لم نقل مستحيلاً إذا ما ظلت الجهود على ما هي عليه.
لكن إذا توسعنا في تفسير مصطلح الأمية نجد أن الكارثة تطاول فئات يُفترض أنها تصنف ضمن الشرائح المثقفة تبعاً لما تعتمده كل المجتمعات. حتى إنه يمكن القول أن الكتاب بات مقتصراً استعماله على فئات تتراوح أعمارها بين 50 عاماً وما فوق، بينما الشرائح الشبابية تعتمد على الوسائل التكنولوجية السريعة وما تحمله. والحقيقة أنه يندر أن تجد خريجاً جامعياً يتابع القراءة حتى في مجال اختصاصه فضلاً عن الثقافة العامة. ثم إنه قبلها، أي خلال دراسته الجامعية، يندر أن يتجاوز المقررات المفروضة إلى سواها. ولا يغير من هذا الوضع دعوات المعلمين والأساتذة طلابهم إلى اعتماد مبدأ " التعلم المستمر" كمدخل لتطوير الذات ومجاراة التقدم العاصف في العلوم والمجالات كافة. علماً أن عملية المواكبة تقود إلى تطوير الأداء المهني والعلمي مهما اختلفت وتوسعت الحقول المعرفية التي تخرج الطالب حاملاً شهادتها. وبديهي أن من لم يقرأ كتاباً في مرحلة الدراسة ولم يقتنِ كتاباً في منزله، أنه لن يقصد المكتبة العامة لقراءة بحث صدر في مجلة علمية، أو كتاب في قاعاتها، أو استعارته منها وحمله معه وإرجاعه لدى الانتهاء منه كما تقتضي نظم المكتبات العامة.
ومثل هذا الإحجام عن القراءة له أسبابه المتداخلة. فمما لاشك فيه أن جملة أوضاع المنطقة العربية تتميز خلال هذه الحقبة بفوضى متنوعة الأشكال، وتداخل وتفجر المشكلات من كل نوع ولون، وهذه تمثل عامل إحباط لدى أجيال عدة. وتبدأ هذه من الأوضاع السياسية المتفجرة في كل من فلسطين وسورية والعراق واليمن وليبيا، وتصل إلى الضائقة الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها فئات عريضة في سائر المجتمعات العربية، مع ما أدت إليه من ضمور وزن وحجم الطبقات الوسطى التي كانت أكثر من سواها معنية بالكتاب والمجلة والمكتبة العامة، وبالتالي الثقافة العامة التي تتجاوز حقل الاختصاص.
إن المناشدات التي تصدرها الهيئات والمنظمات الثقافية الدولية والعربية والوطنية إلى الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام للنهوض بمسؤولياتها للتشجيع على القراءة وارتياد المكتبات العامة وإغنائها وتنويع موجوداتها لم تعد تكفي، ولم تعد تفيد في إنقاذ الموقف الذي يندفع بسرعة فائقة نحو هاوية كارثية. فهل من يسمع فيعي؟ أم أننا نعاني من فقدان إمكانية تدارك ما نحن عليه ونندفع نحوه بسرعات ضوئية.
*باحث وأستاذ جامعي