لعلّ ردود الفعل المنقسمة بين السعادة المطلقة في ميامي الأميركية، التي تعرف بـ"هافانا الصغيرة"، على وفاة فيديل كاسترو، والحزن المميت في أماكن كثيرة من العالم، تختصر جانباً كبيراً مما يمكن أن يقال عن الرجل الذي يصنف، موضوعياً، في خانة الظواهر السياسية للقرن العشرين. ولعلّ الكلمات القليلة التي صدرت عن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، تعليقاً على نبأ الوفاة، تختزل الجزء الآخر لشخصية الرجل وسيرته، هو الذي "جسد الثورة بآمالها وخيباتها" بحسب تعبير الرئيس "الاشتراكي" الذي لا شك في أنه نشأ، أيام كان الحزب الاشتراكي الفرنسي اشتراكياً بالفعل، على أدبيات تمجّد الزعيم الكوبي.
مات كاسترو بعد 90 عاماً قضى أكثر من 70 منها في المشاغبة والحروب والثورات والتصفيات والتأثير في أجيال على امتداد العالم. وربما ليس من المبالغة القول إنه يندر وجود أي شخص في العالم لا يعرف اسم فيديل كاسترو، بغض النظر عن الانطباع الأولي الذي يثيره الاسم، بين مجرم أو أسطورة ثورية، بين حالم بعالم أفضل بالفعل، وانتهازي جعل شعبه يموت جوعاً وحصاراً وتنكيلاً، وقائد تحرر من الإمبريالية والوصاية وقوانين رأس المال والكنيسة، قبل المراجعات الكبرى التي أجراها على كل حال. وربما يكون عدد من سمّوا أولادهم "فيديل" دليلاً على كون الرجل ينتمي إلى فئة باتت منقرضة من الزعماء التاريخيين الذي كتبوا تاريخ العالم، من صنف شارل ديغول ولينين وهو شي مينه وجمال عبد الناصر وجون كينيدي وياسر عرفات ونيلسون مانديلا وأرنستو تشي غيفارا، الذي أخذ معه، مثلما أخذ كاسترو معه، أسرار وألغاز العلاقة التي انتهت بينهما، ودياً بحسب البعض، وبشكل مأساوي بحسب كثيرين آخرين.
لا يُمكن اختصار "الرفيق" فيديل بثورة كوبية ناجحة أو بمعاصرته أرنستو تشي غيفارا. كان كاسترو أقلّ مثالية وأكثر واقعية من تشي. ترك الرومانسية الثورية لغيره، وانصرف إلى رسم خريطة سياسية مغايرة لكل ما سبق، ولكل ما أتى لاحقاً، في كوبا وفي البيئة الأميركية الوسطى. كان يحلو له ترداد: "يكفيني فخراً أنني أقمت الاشتراكية على فم الولايات المتحدة". أقامها، على الرغم من الحصار الأميركي للجزيرة. لكنه فعلها، ونجح في تحويل بلاده إلى مثال صادح لمحو الأمية ومجانية الطبابة. لكنه أيضاً حول بلده إلى بلدين: بلد الفقر للكوبيين، وبلد الجنات السياحية المحصورة بالأجانب والممنوعة على المواطنين، تماماً مثلما كان الحال في وجود عملتين، واحدة للمواطنين والثانية لأثرياء السياحة. لم يكن كاسترو قديساً، فقد ساهم في "تطهير" صفوف "الثورة" من كل رجال العهود السالفة. تحديداً عهد الرئيس السابق فولخانسيو باتيستا. اقتنع كاسترو بنصيحة غيفارا، الذي أسرّ له "أخطأ جاكوبو أربينز في غواتيمالا، حين لم يقم بتطهير صفوفه قبل الانقلاب العسكري عليه، عبر الإعدامات، لو فعلها لما قام عليه أحد". كان أربينز قد تسلّم الحكم في غواتيمالا بين عامي 1951 ـ 1954، وأُطيح به في انقلاب دبّرته الولايات المتحدة، وكان غيفارا شاهداً على ما جرى. تجربة غيفارا في غواتيمالا، سمحت لكاسترو، في حسم موقفه، فوافق على تنفيذ الإعدامات "باسم الشعب الكوبي". فعلت الإعدامات فعلها، بالنسبة إلى الثوار الجدد. كل من عارض كاسترو قُتل أو سكت أو هاجر. كانت الطريقة الأنسب للثورة الوليدة في تكريس وجوديتها. لم يكن هناك من يوثق الإعدامات. كانت "الشائعات" و"الأقاويل" هي السائدة. مع ذلك، كان هناك أمر ما سينهي مسيرة طويلة: العلاقة مع غيفارا.
كان كاسترو ذكياً كفاية ليُصيغ "إعلان هافانا" بحسب أهواء ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، التي استقلّ فيها عدد هائل من الدول، الآسيوية والأفريقية. كان منشغلاً، في متابعة مآل الثورة الإيرانية، والاجتياح السوفييتي لأفغانستان في عام 1979. كان منتبهاً لـ"البينغ بونغ" الأميركية ـ الصينية في 1971، ولتراجع الأميركيين في حرب فيتنام. وجوده في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في فترة أوجدت فيها الولايات المتحدة ومعها الاتحاد السوفييتي، مساحة واسعة لحرب باردة بينهما، كان مزعجاً، بالتالي كان هدفاً لمحاولات اغتيال. فكاسترو وعلى الرغم من واقعيته، إلا أنه كان حجر عثرة بالنسبة إلى رجال واشنطن، خصوصاً أنهم كانوا قد "باركوا" له انتصار الثورة، قبل أن يعمد إلى تأميم الشركات الأجنبية، الأميركية بمعظمها. حينها قرروا التخلّص منه بسبب معاداته لهم. بالنسبة إلى الأميركيين لم يكن باتريس لومومبا أفضل من كاسترو، ولا مارتن لوثر كينغ، ولا غيفارا نفسه. "لا أستطيع أن أفعل ذلك، فيديل"، تلك كانت كلمات "المرأة القاتلة"، التي وظّفتها الاستخبارات الأميركية لاغتيال كاسترو. لا تُذكر السجلات أسباب تردد المرأة، التي كانت تستهدف اغتياله بحبوب مسممة داخل البوظة. لم تكن المحاولة الأولى من نوعها. في الواقع تعرّض الرجل لحوالي 360 محاولة اغتيال، أو هكذا يقال على الأقل، لم تنجح أي منها. فشل بعضها بفعل الصدفة، وبعضها الآخر بفعل فطنته. كان كاسترو براغماتياً بشكل هائل. لم يكشف كل أوراقه بعد انتصار الثورة الزاحفة من جبال سييرا مايسترا إلى هافانا. لم يكن نموذجاً مشابهاً لديكتاتوريي أميركا الجنوبية، الذين ارتقوا إلى السلطة بانقلابات دموية وهبطوا منها بإهانات شعبية: أوغوستو بينوشيه في تشيلي نموذجاً. المجلس العسكري في الأرجنتين مثالاً. الحكومة العسكرية في البرازيل أيضاً. كان الرجل أذكى من التصرّف كأنداده. رآهم يتهاوون، فيما استمرّ هو في الرقص على الحبال.