31 ديسمبر 2021
في الخوف واللجوء وكورونا والموت
يقول الفيلسوف الفرنسي، جاك دريدا، إن مهمة الفلسفة أن تقرّبنا من الموت، أي أن تجعلنا قادرين على فهمه وقبوله، متحرّرين قدر الإمكان من الخوف العميق والأصيل الذي نملكه تجاهه، والذي يأسر معظم تصرّفاتنا وردود أفعالنا.
وإذا كانت الأنظمة الديكتاتورية، والأيديولوجيات الشمولية، قد حاولت أن تأسر الإنسان بنشر الخوف الممنهج ثقافةً حقيقيةً تقود الجموع إلى حالة الاستسلام والوصول إلى إحساس العبد الذي في العمق لا يمكن أن يولد إلا شخصيات منافقة ومزيفة، تتقن الكذب والغش وسهلة الانقياد للدخول في حالة فساد جماعية، فقد قادت الكوارث البيئية والأوبئة المرضية العقل البشري أيضا إلى الالتجاء إلى الغيب، أو إلى الحصن الجماعي الذي يعيده إلى انتهاج الآلية الببغاوية في التفكير، وإلى التقليل من مواجهة العقل النقدي، أو التفكير النقدي الموضوعي العلمي العميق.
إذا لا فرق بين ثقافة الخوف الجمعية التي أنتجتها أجهزة المخابرات السورية، التابعة لنظام القمع والعفونة السوري، خمسة عقود، وما يفعله في البشرية الآن انتشار فيروس غيّر في نفسه، كي يستطيع أن يكون طاغية آخر يتحكم ويستلذ بحالة الهلع التي تجتاح العالم، ففي حين نشر النظام السوري شكلا من ثقافة التفرّد في الذعر التي جعلت كل مواطن سوري يظن أن الآخر مخبر تابع لأحد أجهزة المخابرات المتعدّدة، وأصبح الكل مذعورا خائفا من الكل، مفصولا عنه، مرعوبا منه، وتكسّرت عوامل الثقة التي يراهن عليها في بناء البعد الأخلاقي لأي شعب، وتخربت الدعامة الوحيدة التي تتمسّك بها الأمم، لكي تعيد ما يتهاوى منها في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمرّ بها.
واليوم ينشر فيروس كورونا الإحساس نفسه بالذعر بين الجميع، فالآخر مدان، وقد يحمل لك
العدوى والموت، وأنت مدان ومصدر رعب للآخر، وأنا مدان ومصدر موت لكما، ولم يعد يحكم العلاقات شيء سوى البعد والذعر، وكأن كورونا تجسيد حي لطغاة الأرض، ولبربرية آلية تحكّمهم بشعوبهم.
لربما تعلّم كورونا من كتاب الأمير لمكيافيللي، كما تعلمه وطبقه نظام الأسد، وكان علينا، نحن الشعب السوري، أن نعيش رعب "البعث" ومخابراته، ورعب الحرب وبراميلها وغاراتها، ورعب النزوح والتشرّد. وأخيرا ربما علينا أن نكمل رعبنا باختبار الإصابة بوباء الموت في بلاد الغربة التي يأكل الخوف فيها قلوبنا، الخوف على من بقي هناك تحت حكم رعب الأسد وكورونا معا.
لم تكن إصابتي، وأنا دمشقية جاءت إلى الأندلس لاجئة تبحث عن حياة لأولادها، وعن نجاة لها من الاعتقال والتعذيب، بفيروس كورونا المستجد أمرا مستحيلا، أو شديد الغرابة في بلدٍ بدأت أعداد الإصابات فيه ترتفع كسهم انطلق للتو من وتر قوسٍ مشدودٍ بعناية. ولم يكن من الصعب أن أتنبأ بمعاناة شديدة سأعيشها بسبب الكسر المناعي والنفسي الذي أحمله معي إلى جهات الأرض، وبسبب ارتفاع مستوى القهر في الدم، وانخفاض مستوى الأوكسجين فيه. الذعر على نفسي وعائلتي الصغيرة معي هنا لم يكن الذعر الحقيقي الذي سجنني طوال فترة إصابتي بكورونا، لأنني أعرف أنني، وعلى الرغم من ارتفاع عدد الوفيات بين المسنين، أعيش الآن في بلدٍ بنيته التحتية ممتازة، ونظامه الصحي من أفضل الأنظمة في العالم. بلد حكمه فرانكو بالحديد والنار أربعين عاما، لكن الديمقراطية عادت وأزهرت فيه، مثلما أزهرت تلك البذور التي زرعها لوركا في كل بساتين إسبانيا. لذا كان الذعر الحقيقي الذي لازمني اثني عشر يوما في العناية المشدّدة هو الخوف على من تركناهم هناك، خلفنا، يحرسون غيابنا، ويعيدون إلينا رسم خطانا كي لا تجفّ، الرعب حول مصيرهم إذا ما هاجمهم الفيروس، بدون أولادهم، بدون أطباء كانوا من أفضل أطباء العالم، بدون مشاف، بدون كهرباء، بدون قدرة على الحياة، الرعب الذي كان يسري في دمي مع السيروم وأدوية الملاريا التي اختبرها جسدي، الرعب الذي كان يجعلني أصرخ وحيدةً في المشفى، لمجرد أنني رأيت صورة لأمي في يوم عيد الأم.
الشفاء النسبي من كورونا، والخروج من العناية المشدّدة بعد كل تلك الساعات من البلاد التي كانت ترتشح في أوردتي، بعد صوت الحناجر في المظاهرات الأولى الذي كان يملأ أذني وقلبي، بعد عودتي وأنا بين الموت والحياة إلى صيدليتي هناك في دمشق، حين كنت فقط أنتظر كم قلبا سأربح اليوم، بعد إحساسي الهائل بالعجز هنا، كل هذا لم يكن بطولةً أو مقياس قوة، فالقوة في خروجي من العناية المشدّدة حية هي فقط قوة الطب، وقوة الأطباء وكل الكادر الصحي الذي لازمني، وقوة تلك القلوب التي أحبّ، القلوب التي كانت تمسك بقلبي، وأنا في المشفى، وتعينه على النبض من جديد.
نجوت من الموت ربما، نعم ربما، لأن الحياة لم تمتحنّا في قيمتها ما يكفي بعد، أو ربما لأنه لم
يكفها امتحان الخوف فينا وتجربته على ما تبقى منا، لتثبت نظرية سقراط أن الخوف سيد المشاعر الخفي. نجوت من الموت ربما، ولم أنج من الخوف المضاعف، فنحن جيل الخوف بكل جدارة، ولدنا معه في السبعينات، حين استلم النظام السوري السلطة، ومعه كبرنا مثلما كبرت في دمشق الزنازين والمشانق. كانت صورة الأب القائد وحدها مركزا للخوف والرعب المحصّن فينا، وكنا نعتاده، ثم نعيش معه، ثم أصبحبنا نتغنى به، كي نهرب منه قليلا.
ونحن الجيل الذي عاش أحداث مجازر الثمانينات في حماة، وكل ما بعدها، نحن جيل المجازر الجماعية، جيل التفجيرات والاغتيالات، جيل بعبع الإخوان المسلمين الذي نفخه نظام البعث، حتى ملأ سماء دمشق ذعرا واستسلاما. ونحن الجيل الذي عرف الثورة، نعم نحن جيل الثورة، لكننا جيل انكسار الأحلام فينا، جيل الأحلام المشنوقة المعلقة على رقابنا، جيل رعب الملاحقة والاعتقال، رعب الأنفاس على كل حاجز، عند كل منعطف، ورعب زائري الليل القاتلين. ونحن الجيل الذي عرف رعب الهروب، ورعب النزوح، وخوف الموج والموت المالح على شواطئ الله الواسعة، ونحن الجيل الأول الذي وصل إلى البلاد البعيدة الباردة حافي القلب ومثقوب الذاكرة، يحمل في روحه شهداءه، وعلى كفه عزلته وفقده الملذوع... كان علينا أن نعرف خوف الغربة والهاوية، وأن نتذوق بأصابعنا طعم الفراغ والعجز والذل في بلادٍ لا تعرف صوتنا، وتتنكر من ملامحنا، ومن عيوننا المكسورة الخائفة.
نجوت، ربما، لكن من يقنع الذين في الزنازين والمخيمات بأن الحياة ممكنة، ومن يقنع هذا الرعب الذي يسري في شرايني بأن يتوقف قليلا كي أتنفس.
إذا لا فرق بين ثقافة الخوف الجمعية التي أنتجتها أجهزة المخابرات السورية، التابعة لنظام القمع والعفونة السوري، خمسة عقود، وما يفعله في البشرية الآن انتشار فيروس غيّر في نفسه، كي يستطيع أن يكون طاغية آخر يتحكم ويستلذ بحالة الهلع التي تجتاح العالم، ففي حين نشر النظام السوري شكلا من ثقافة التفرّد في الذعر التي جعلت كل مواطن سوري يظن أن الآخر مخبر تابع لأحد أجهزة المخابرات المتعدّدة، وأصبح الكل مذعورا خائفا من الكل، مفصولا عنه، مرعوبا منه، وتكسّرت عوامل الثقة التي يراهن عليها في بناء البعد الأخلاقي لأي شعب، وتخربت الدعامة الوحيدة التي تتمسّك بها الأمم، لكي تعيد ما يتهاوى منها في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمرّ بها.
واليوم ينشر فيروس كورونا الإحساس نفسه بالذعر بين الجميع، فالآخر مدان، وقد يحمل لك
لربما تعلّم كورونا من كتاب الأمير لمكيافيللي، كما تعلمه وطبقه نظام الأسد، وكان علينا، نحن الشعب السوري، أن نعيش رعب "البعث" ومخابراته، ورعب الحرب وبراميلها وغاراتها، ورعب النزوح والتشرّد. وأخيرا ربما علينا أن نكمل رعبنا باختبار الإصابة بوباء الموت في بلاد الغربة التي يأكل الخوف فيها قلوبنا، الخوف على من بقي هناك تحت حكم رعب الأسد وكورونا معا.
لم تكن إصابتي، وأنا دمشقية جاءت إلى الأندلس لاجئة تبحث عن حياة لأولادها، وعن نجاة لها من الاعتقال والتعذيب، بفيروس كورونا المستجد أمرا مستحيلا، أو شديد الغرابة في بلدٍ بدأت أعداد الإصابات فيه ترتفع كسهم انطلق للتو من وتر قوسٍ مشدودٍ بعناية. ولم يكن من الصعب أن أتنبأ بمعاناة شديدة سأعيشها بسبب الكسر المناعي والنفسي الذي أحمله معي إلى جهات الأرض، وبسبب ارتفاع مستوى القهر في الدم، وانخفاض مستوى الأوكسجين فيه. الذعر على نفسي وعائلتي الصغيرة معي هنا لم يكن الذعر الحقيقي الذي سجنني طوال فترة إصابتي بكورونا، لأنني أعرف أنني، وعلى الرغم من ارتفاع عدد الوفيات بين المسنين، أعيش الآن في بلدٍ بنيته التحتية ممتازة، ونظامه الصحي من أفضل الأنظمة في العالم. بلد حكمه فرانكو بالحديد والنار أربعين عاما، لكن الديمقراطية عادت وأزهرت فيه، مثلما أزهرت تلك البذور التي زرعها لوركا في كل بساتين إسبانيا. لذا كان الذعر الحقيقي الذي لازمني اثني عشر يوما في العناية المشدّدة هو الخوف على من تركناهم هناك، خلفنا، يحرسون غيابنا، ويعيدون إلينا رسم خطانا كي لا تجفّ، الرعب حول مصيرهم إذا ما هاجمهم الفيروس، بدون أولادهم، بدون أطباء كانوا من أفضل أطباء العالم، بدون مشاف، بدون كهرباء، بدون قدرة على الحياة، الرعب الذي كان يسري في دمي مع السيروم وأدوية الملاريا التي اختبرها جسدي، الرعب الذي كان يجعلني أصرخ وحيدةً في المشفى، لمجرد أنني رأيت صورة لأمي في يوم عيد الأم.
الشفاء النسبي من كورونا، والخروج من العناية المشدّدة بعد كل تلك الساعات من البلاد التي كانت ترتشح في أوردتي، بعد صوت الحناجر في المظاهرات الأولى الذي كان يملأ أذني وقلبي، بعد عودتي وأنا بين الموت والحياة إلى صيدليتي هناك في دمشق، حين كنت فقط أنتظر كم قلبا سأربح اليوم، بعد إحساسي الهائل بالعجز هنا، كل هذا لم يكن بطولةً أو مقياس قوة، فالقوة في خروجي من العناية المشدّدة حية هي فقط قوة الطب، وقوة الأطباء وكل الكادر الصحي الذي لازمني، وقوة تلك القلوب التي أحبّ، القلوب التي كانت تمسك بقلبي، وأنا في المشفى، وتعينه على النبض من جديد.
نجوت من الموت ربما، نعم ربما، لأن الحياة لم تمتحنّا في قيمتها ما يكفي بعد، أو ربما لأنه لم
ونحن الجيل الذي عاش أحداث مجازر الثمانينات في حماة، وكل ما بعدها، نحن جيل المجازر الجماعية، جيل التفجيرات والاغتيالات، جيل بعبع الإخوان المسلمين الذي نفخه نظام البعث، حتى ملأ سماء دمشق ذعرا واستسلاما. ونحن الجيل الذي عرف الثورة، نعم نحن جيل الثورة، لكننا جيل انكسار الأحلام فينا، جيل الأحلام المشنوقة المعلقة على رقابنا، جيل رعب الملاحقة والاعتقال، رعب الأنفاس على كل حاجز، عند كل منعطف، ورعب زائري الليل القاتلين. ونحن الجيل الذي عرف رعب الهروب، ورعب النزوح، وخوف الموج والموت المالح على شواطئ الله الواسعة، ونحن الجيل الأول الذي وصل إلى البلاد البعيدة الباردة حافي القلب ومثقوب الذاكرة، يحمل في روحه شهداءه، وعلى كفه عزلته وفقده الملذوع... كان علينا أن نعرف خوف الغربة والهاوية، وأن نتذوق بأصابعنا طعم الفراغ والعجز والذل في بلادٍ لا تعرف صوتنا، وتتنكر من ملامحنا، ومن عيوننا المكسورة الخائفة.
نجوت، ربما، لكن من يقنع الذين في الزنازين والمخيمات بأن الحياة ممكنة، ومن يقنع هذا الرعب الذي يسري في شرايني بأن يتوقف قليلا كي أتنفس.
مقالات أخرى
03 سبتمبر 2021
21 مايو 2021
17 ابريل 2021