في القدس
في القدس، تحررت من أثقال هويتي الفلسطينية، على عتبة باب الأسباط، المؤدي إلى المسجد الأقصى، بعد يومين من دخولي فلسطين، أول مرة في حياتي. كان ذلك في الرابع من أغسطس/آب 1999.
أشار إليّ الشرطي الإسرائيلي، من بين كل الناس الداخلين إلى المسجد، لتأدية صلاة الجمعة، وقال: من أين أنت؟
قلت له: فلسطيني!
فضحك الشرطي، وسأل: أمعك هوية؟
قلت: نعم. وأعطيته الهوية، فأعادها لي، وقال: اذهب!
حين ضحك الشرطي الإسرائيلي، تنبهت إلى أن صديقي مهند الذي ذهبت صحبته إلى القدس ضحك أيضاً. فسألته عن سبب ضحكهما. فقال مهند: عندما يسألك أحدٌ هنا من أين أنتَ، لا تقول له فلسطيني، لأن الجميع فلسطينيون، عليك أن تذكر له من أي مدينةٍ، أو قريةٍ، أنت.
في تلك اللحظة، أدركت كم كانت هويتي الفلسطينية سبباً للتعب والثقل الذي يكبّل الروح. كان أمامي، في ذلك اليوم، شهر واحد، لأبلغ الثامنة والأربعين من عمري، وقد عشت كل هذه الأعوام، وأنا أجرُّ خلفي وأدفع أمامي وعلى جانبي فلسطينيتي المُتعبة.
ولدت في لبنان لاجئاً لأب فلسطيني وأم لبنانية جنوبية، وعشت نصف عمري هناك، كما عشت في لندن سبع سنوات، وفي تونس عشرين سنة. كنت دائماً لأصدقائي اللبنانيين "الصديق الفلسطيني" وكنت لأصدقائي البريطانيين وغيرهم "ذي بلستينيان فريند"، وكنت لأصدقائي التونسيين "الصديق الفلسطيني".
كان شخصي واسمي مرتبطين بهويتي الفلسطينية، إلى أن دخلت القدس، فتعريت من ذلك كله، لا بل انهار ذلك كله، في لحظة ضحك فيها الشرطي الإسرائيلي وضحك صديقي مهند، لما كنت أحمله من عفوية الهوية وثقلها على كتفيَّ. في أقلَّ من ثانيتين من هذا الزمن الطويل، فعلت بي القدس أعمق وأكثر وأشدّ تأثيراً ممّا فعلته الأفكار والأيديولوجيات والأحلام الأممية التي تسعى إلى جعلي مواطناً كونيّاً.
وها قد عشت، في لفتة صغيرة، زمن مدينةٍ، هي البعيدة في الزمان، العتيقة في المكان. في زيارتي تلك، مشيت في شوارع القدس، وتذكرت ما قاله جبرا إبراهيم جبرا عن تلك المدينة الشقية، إنها ليست مكاناً، بل هي زمان. منذ ذلك اليوم، رأيتني وقد صرت خفيفاً على نفسي، وكأنني أتعرف إلى اسمي، لأول مرة، واضحاً بلا صفة أو عنوان.
ربما يبدو الأمر غريباً ومدهشاً لروحي، أنني، في لقائي الأول مع القدس، طغت عليَّ روح المسيح، أكثر من أي شيء تنتمي إليه المدينة. سرت في طريق الجلجلة، ورأيت عيسى بن مريم محنيَّ الظهر، ومدمي الجبين بإكليل الشوك، حافي القدمين، حتى خلته صبيّاً لاجئاً فلسطينيّاً، يخبط بالوحل في أزقة المخيم في شتاء لا يرحم. رأيته خاشع القلب والروح على جبل الزيتون، طفلاً صغيراً مرتعش الذاكرة، أمام باب كنيسة القيامة.
في كل الأحداث التي شهدتها القدس في الأعوام الأخيرة، وفي كل القسوة التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي تجاه المدينة، وتجاه المسجد الأقصى، كنت أتساءل عن دروب المسيح ومأواه، عن دفء عزلته، وانكفائه تحت زيتونةٍ، لا تزال جاثمة هناك، تحكي خيبته وأساه، وعن مرقد أمه في كنيسة الجثمانية. كأن التاريخ المسيحي في القدس عرضة للنسيان، كأن إسرائيل أرادت أن تحفر في وعينا صورةً واحدةً للقدس، هي صورة المسجد الأقصى، لكي يسير التاريخ، كما تريد له أن يسير، ولكي نصل إلى كل العصبيات الإسلامية التي طغت على كل العقول في مقابل العصبية اليهودية، فننسى أنفاس التاريخ المتنوع والمتعدد لهذه المدينة التي أثقلتها رمزية القدسية الواحدة.
أن تسير في القدس، ستكون، دائماً، روح درب الآلام رفيقة لك، وأنت تبحث عن طريق لك على هذه الأرض الباحثة عن الحياة.