31 أكتوبر 2024
في تشظّي العالم العربي
لم يكن انهيار جدار برلين في العام 1989، وتفكك المعسكر الشيوعي، مجرد أحداث عابرة وبسيطة في القاموسين، السياسي والاستراتيجي، بل شكلت زلزالا قويا دمر منظومات إيديولوجية، ودفن تحت الأنقاض أنظمةً بكاملها، كما أن فشل "البيروستروكا" التي سعى إلى تطبيقها آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، لا يمكن تفسيره على أساس أنه سقوط لمشروع شخصي، بل هو انهيار لنظام ونموذج سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي، لم يتمكّن من تجديد نفسه، وعجز عجزا كليا عن تطوير بنيات إنتاجه المادية والرمزية، كما فشل في توقع الانهيار المأساوي لقطبٍ اعتبر أكثر من 70 سنة أحد عوامل التوازن العسكري والاستراتيجي ، ما أفسح المجال أمام اندفاع تاريخي وجامح غير مسبوق للنيو- ليبرالية.
اللافت أنه حينما كشف غورباتشوف عن المفاصل الأساسية لخطته التأهيلية التي وصفت بالثورية، حملت اسم "البيروسترويكا" و"الغلاسنوست"، ومقابلهما "الإصلاح وإعادة البناء"، صفق له العالم من أقصاه إلى أقصاه، وظهر بمظهر المصلح المجدّد الذي جاء ليضخ دماء جديدة، وليعطي نفسا قويا للمنظومة الشيوعية، ولإضفاء طابعٍ من الجدّية على مشروعه الإصلاحي، عمد إلى تضمين أفكاره في كتابٍ تصدر آنذاك قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وتحوّل الرئيس السوفييتي فجأة من رئيس إمبراطورية معني بتدبير شؤون دولة عظمى، توجد على شفا الاندحار، إلى نجم إعلامي، أبهرته الألقاب والمناقب التي ألصقت به، لكن أضواء الإعلام وسحر النجومية لم يصمدا طويلا أمام قوة الواقع وعناد الوقائع. وبسرعةٍ قياسية، تفكّكت القوة العظمى، واهتزت المؤسسات والمنظومات والبنيات، وتشظت الأيديولوجيا، وبهتت النظرية الماركسية– اللينينية، وانعكس ذلك على الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما صحا غورباتشوف على هول المأساة، عندما اكتشف سراب (وخدعة) الأضواء التي سلطت عليه، والتصفيق الذي قوبلت به ظاهرة البيروسترويكا، غير مكترثٍ بمقولة الرئيس السوفييتي الأسبق، نيكيتا خروتشوف، "عندما يصفق لي الغرب أعرف أنني اقترفت خطأ فادحاً ليلة أمس".
للعودة إلى نهاية الثمانينيات، وما عرفته من أحداثٍ مفصليةٍ غيرت وجه العالم، وخلخلت
موازين القوى وتوازن الرعب، علاقة بما يحدث في الوقت الراهن في المنطقة العربية، وما تشهده من تصدّعات وانقسامات وصراعات وإعادة تشكيل جيو-ستراتيجي على كل المستويات، فمنذ اندلاع ما عرفت بثورات الربيع العربي، والمنطقة تحقق إنجازات مهمة على صعيد انهيار الدولة الوطنية، وتلاشي المؤسسات واختفاء معالم التمدّن، وتحول المواطنين في أكثر من دولة إلى عشائر متناحرة متحاربة ومتنافسة بشكل جنوني، لإثبات فعاليتها في التدمير والتخريب واجتثاث مقومات الاستقرار والعمران بالمفهوم الخلدوني. وإذا كانت التحولات الدراماتيكية التي مسّت رقعةً كبيرةً في العالم العربي، تم التعامل معها في البداية على أساس أنها عملية ثورية، جاءت لتصحيح الأوضاع، ووضع حد للاستبداد والفساد على اختلاف مظاهرهما، بما في ذلك توفير شروط سياسية واجتماعية واقتصادية لانبثاق أنظمة ديمقراطية، تستند إلى الشرعية الشعبية والانتخابية، ما كان يعني تفكيك المنظومات والبنيات التي كانت سائدة ومهيمنة على مفاصل الدولة وأجهزتها، ومتحكّمة في كل القطاعات والأنشطة الحيوية.
مؤكد أن الأحلام والآمال التي عقدت على حراك الشارع العربي كانت كبيرة وصادقة، على أكثر من مستوى، كما أن فئاتٍ عريضةً رأت في ذلك الحراك خلاصا وتحريرا لها من ربقة الظلم والإهانة والإذلال والعسف وهضم الحقوق وانتهاك الحريات، لكن كل شيء انقلب إلى كوابيس وصدمات. وبسرعةٍ فائقة، تطوّرت الأحداث إلى الأسوأ، ووجدت مجتمعات نفسها أمام مشاهد قيامية مذهلة، حيث تحولت الحضارة والعمارة والتجارة إلى فوضى عارمة جاءت على الأخضر واليابس، وفتحت أبواب المجهول واسعةً أمام مصائر البلاد والعباد. وهكذا تم تعميم نموذج للتدميرالممنهج، وقفت وراءه عوامل داخلية وخارجية، تاريخية وراهنة، وشارك في إعداد تصوره فاعلون بأجندات متباينة ومصالح متفاوتة. وقد صفق هؤلاء للحراك بحماسٍ منقطع النظير، وأغدقوا عليه المدائح والصفات التي تثلج الصدور، وتريح العقول، واعتبروه فتوحات ديمقراطية، جاءت في الوقت المناسب، بعد أن نضجت الشروط، لتدفن إلى الأبد أنظمةً شموليةً مطلقةً ومستبدةً ومتخلفةً بكل المقاييس، فوقع للثوار والنشطاء ما وقع لميخائيل غورباتشوف، عندما سلطت عليهم الأضواء، وتحولوا إلى نجوم وأيقونات عابرة لكل المؤسسات والفضاءات، وانخدعوا بسحر الإعلام الدولي وجاذبيته، وسلطة الصورة، وبالقوة الضاربة لمواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الشعبية التي حظوا بها، باعتبارهم بديلا تاريخيا، وحده الذي يملك القدرة والإمكانية الفعلية لإقامة دولة الحق والقانون والمواطنة التي عجزت عن تحقيقها الأحزاب والحركات الاحتجاجية التقليدية، لكن لحظات الانتشاء والسعادة كانت قصيرة جدا، بسبب الانزياحات الخطيرة التي انزلقت إليها بعض ثورات الربيع العربي، حيث وجدت
مجتمعات عربية نفسها تحت طائلة حركات إرهابية، وتنظيماتٍ أخذت صفة الدولة، واختلطت الأوراق، وتداخلت الحسابات الإستراتيجية، واشتغلت أجهزة استخبارات متعدّدة لتحصين مصالح دولها، وحشد ما يكفي من المعطيات والمعلومات، بهدف التموقع الجيو- استراتيجي المريح.
وهكذا وجد الجميع نفسه في مواجهة حقائق موجعة على الأرض، وتطوراتٍ من الصعب إيجاد تفسير منطقي ومقنع لها، فكيف يمكن فهم تحول تنظيم إلى دولةٍ مشكلة من عدة جنسيات، وكيف استطاع هذا التنظيم تحقيق انتصاراتٍ على الجيوش النظامية، والتحالفات العسكرية الدولية، وقضم مساحاتٍ تفوق، في امتدادها، مساحة فرنسا، بل أكثر من هذا، كيف امتلكت هذه التنظيمات كل هذه القوة والأسلحة والعدة والعتاد والمقاتلين، وكيف تناسلت وتكاثرت لتتحول إلى كابوسٍ يقضّ مضاجع كل الدول؟
عندما يتعلق الأمر بالمصالح الكبرى والحيوية، لن يرحمك الغرب بكل مكوناته، وهو مستعدٌّ لتدمير دول بكاملها، وإشعال حرائق وحروب بين أبناء الشعب الواحد، ومستعد للعب دور الحارس الأمين على الاستقرار والسلم العالميين وفق فهمه، وتماشيا مع حساباته. ولن يتردّد هذا الغرب نفسه الذي وفر لإسرائيل كل شروط الأمن والحماية في العودة بالدول والمجتمعات العربية إلى عهود البداوة والتخلف، والدرجة الصفر من الحضارة. وهذا ما يتطلب من الجميع يقظةً دائمة ووعيا استثنائيا ومنسوبا عاليا من الحكمة والتعقّل، لتفادي السقوط في مخطط دمار شامل، لا أحد يعرف مآلاته.
اللافت أنه حينما كشف غورباتشوف عن المفاصل الأساسية لخطته التأهيلية التي وصفت بالثورية، حملت اسم "البيروسترويكا" و"الغلاسنوست"، ومقابلهما "الإصلاح وإعادة البناء"، صفق له العالم من أقصاه إلى أقصاه، وظهر بمظهر المصلح المجدّد الذي جاء ليضخ دماء جديدة، وليعطي نفسا قويا للمنظومة الشيوعية، ولإضفاء طابعٍ من الجدّية على مشروعه الإصلاحي، عمد إلى تضمين أفكاره في كتابٍ تصدر آنذاك قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وتحوّل الرئيس السوفييتي فجأة من رئيس إمبراطورية معني بتدبير شؤون دولة عظمى، توجد على شفا الاندحار، إلى نجم إعلامي، أبهرته الألقاب والمناقب التي ألصقت به، لكن أضواء الإعلام وسحر النجومية لم يصمدا طويلا أمام قوة الواقع وعناد الوقائع. وبسرعةٍ قياسية، تفكّكت القوة العظمى، واهتزت المؤسسات والمنظومات والبنيات، وتشظت الأيديولوجيا، وبهتت النظرية الماركسية– اللينينية، وانعكس ذلك على الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما صحا غورباتشوف على هول المأساة، عندما اكتشف سراب (وخدعة) الأضواء التي سلطت عليه، والتصفيق الذي قوبلت به ظاهرة البيروسترويكا، غير مكترثٍ بمقولة الرئيس السوفييتي الأسبق، نيكيتا خروتشوف، "عندما يصفق لي الغرب أعرف أنني اقترفت خطأ فادحاً ليلة أمس".
للعودة إلى نهاية الثمانينيات، وما عرفته من أحداثٍ مفصليةٍ غيرت وجه العالم، وخلخلت
مؤكد أن الأحلام والآمال التي عقدت على حراك الشارع العربي كانت كبيرة وصادقة، على أكثر من مستوى، كما أن فئاتٍ عريضةً رأت في ذلك الحراك خلاصا وتحريرا لها من ربقة الظلم والإهانة والإذلال والعسف وهضم الحقوق وانتهاك الحريات، لكن كل شيء انقلب إلى كوابيس وصدمات. وبسرعةٍ فائقة، تطوّرت الأحداث إلى الأسوأ، ووجدت مجتمعات نفسها أمام مشاهد قيامية مذهلة، حيث تحولت الحضارة والعمارة والتجارة إلى فوضى عارمة جاءت على الأخضر واليابس، وفتحت أبواب المجهول واسعةً أمام مصائر البلاد والعباد. وهكذا تم تعميم نموذج للتدميرالممنهج، وقفت وراءه عوامل داخلية وخارجية، تاريخية وراهنة، وشارك في إعداد تصوره فاعلون بأجندات متباينة ومصالح متفاوتة. وقد صفق هؤلاء للحراك بحماسٍ منقطع النظير، وأغدقوا عليه المدائح والصفات التي تثلج الصدور، وتريح العقول، واعتبروه فتوحات ديمقراطية، جاءت في الوقت المناسب، بعد أن نضجت الشروط، لتدفن إلى الأبد أنظمةً شموليةً مطلقةً ومستبدةً ومتخلفةً بكل المقاييس، فوقع للثوار والنشطاء ما وقع لميخائيل غورباتشوف، عندما سلطت عليهم الأضواء، وتحولوا إلى نجوم وأيقونات عابرة لكل المؤسسات والفضاءات، وانخدعوا بسحر الإعلام الدولي وجاذبيته، وسلطة الصورة، وبالقوة الضاربة لمواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الشعبية التي حظوا بها، باعتبارهم بديلا تاريخيا، وحده الذي يملك القدرة والإمكانية الفعلية لإقامة دولة الحق والقانون والمواطنة التي عجزت عن تحقيقها الأحزاب والحركات الاحتجاجية التقليدية، لكن لحظات الانتشاء والسعادة كانت قصيرة جدا، بسبب الانزياحات الخطيرة التي انزلقت إليها بعض ثورات الربيع العربي، حيث وجدت
وهكذا وجد الجميع نفسه في مواجهة حقائق موجعة على الأرض، وتطوراتٍ من الصعب إيجاد تفسير منطقي ومقنع لها، فكيف يمكن فهم تحول تنظيم إلى دولةٍ مشكلة من عدة جنسيات، وكيف استطاع هذا التنظيم تحقيق انتصاراتٍ على الجيوش النظامية، والتحالفات العسكرية الدولية، وقضم مساحاتٍ تفوق، في امتدادها، مساحة فرنسا، بل أكثر من هذا، كيف امتلكت هذه التنظيمات كل هذه القوة والأسلحة والعدة والعتاد والمقاتلين، وكيف تناسلت وتكاثرت لتتحول إلى كابوسٍ يقضّ مضاجع كل الدول؟
عندما يتعلق الأمر بالمصالح الكبرى والحيوية، لن يرحمك الغرب بكل مكوناته، وهو مستعدٌّ لتدمير دول بكاملها، وإشعال حرائق وحروب بين أبناء الشعب الواحد، ومستعد للعب دور الحارس الأمين على الاستقرار والسلم العالميين وفق فهمه، وتماشيا مع حساباته. ولن يتردّد هذا الغرب نفسه الذي وفر لإسرائيل كل شروط الأمن والحماية في العودة بالدول والمجتمعات العربية إلى عهود البداوة والتخلف، والدرجة الصفر من الحضارة. وهذا ما يتطلب من الجميع يقظةً دائمة ووعيا استثنائيا ومنسوبا عاليا من الحكمة والتعقّل، لتفادي السقوط في مخطط دمار شامل، لا أحد يعرف مآلاته.