أيام قليلة مضت على ذكرى وفاة المخرج المصري، حسين كمال (1934- 2003) لتسدعي مسيرته من حادثة كان قد رواها في لقاء متأخّرٍ جدّاً في حياته، عن واقعة عابرة، ولكن، كان لها أثرٌ واضحٌ في كلّ خياراته بعد ذلك. يقول كمال، إنَّه في أحد أيام الستينيات، وبعد إخراجه أول أفلامه "المستحيل" (1965)، والذي حقّق نجاحاً نقدياً وجماهيريّاً وسينمائيّاً كبيراً، سنحت له الفرصة لمشاهدته في قاعة سينما تجاريّة بالسيدة زينب. شعر، آنذاك، كمال بالسعادة، لأن فرصة مشاهدة الفيلم مع الناس، ستتيح له معرفة تفاعلهم المباشر مع فيلمه، ورأيهم الأوّلي الصادق. ولكن، لم يكن هناك أي تفاعل. بل إن الجمهور، تقريبًا، غضب وقام بتكسير الكراسي، لأنّ الفيلم لم يكن مفهوماً من وجهة نظره!
إقرأ أيضاً:قبل "حاتم".. 5 مشاهد سينمائية شهيرة عن فساد الضباط
خرج، حسين كمال، من القاعة يشعر بضرورة إجراء مراجعة كُبرى لأفكاره. ويؤكد، كما يقول في الحوار ذاته، في برنامج تلفزيوني، أن "فكرة السينما في الأصل، هي حصول تفاعل بين شاشة العرض والمتفرّج الجالس، ولا يجب أن أفقد القدرة على إجراء هذا التفاعل".
التلفزيون المصري فرصة إبداعيّة
هذه الحكاية، ربّما، تفسّر الكثير من خيارات كمال لاحقاً، المخرج الذي تخرج من معهد السينما في عام 1954، وظلَّ لسنوات عاجزاً عن إيجاد فرصة تمكّنه من إيجاد نفسه. قبل أن يبدأ التلفزيون المصري في البث عام 1960، ويصبح التلفزيون بحاجة لـ "سهرات تلفزيونية" ومسلسلات طويلة، الأمرُ الذي أعطى مساحة للرجل ليقدِّم جزءاً من فيضِ موهبته، وأهمُّها فيلمه التلفزيوني "المعطف"، عن قصة لنجيب محفوظ، وفاز ذلك الفيلم بجائزة الدراما في مهرجان التلفزيون عام 1964. ممّا أتاح له أخيراً الإخراج في السينما، بعد اختياره من قبل رئيس مؤسسة السينما، صلاح أبو سيف، حينذاك، ليخرج أول أفلامه "المستحيل" (1965)، من بطولة كمال الشناوي وسناء جميل.
كان "المستحيل" فيلماً مهماً وقيّماً، تأثر كمال عند صناعته بتيارات من السينما العالمية، خصوصاً بالسينما الإيطالية، وبـ "فيديريكو فيليني" على وجه الدقّة. ونجح الفيلم نقدياً، ولكنه فشل جماهيرياً كما تشير الواقعة الشخصية التي جرت معه في البداية. ولكن كمال استمر في طموحه الفني، وأخرج فيلمين مهمين جداً هما "البوسطجي" (1968) عن قصة يحيى حقي وبطولة شكري سرحان، ثم عمله الملحمي "شيء من الخوف" (1969).
ثلاثة أحداث غيّرت مساره الفني
في تلك المرحلة، حدثت ثلاثة أمور مهمّة بالتوازي، غيرت من مسار وحياة حسين كمال بالكامل، وجعلته "يصعد فوق الشجرة".
أوّلاً، المشاكل الرقابية الأمنية التي تعرض لها فيلم "شيء من الخوف" واتهامه بالخيانة وتجسيد شخص الرئيس جمال عبدالناصر، في شخصية الطاغية "عتريس". وقتها، مرّ كمال بضغط نفسي هائل، حتى تدخل عبدالناصر بنفسه، وأجاز عرض الفيلم. ولكن، بعد مشاكل شخصية وفنية عديدة ومعقدة، وتأخر في عرض الفيلم استمرّ لعام تقريباً.
ثانياً، اتصال عبدالحليم حافظ بكمال، وطلبه إخراج فيلم استعراضي له. وأخرج كمال له فيلم "أبي فوق الشجرة" (1969) والذي حقق نجاحاً مذهلاً في شباك التذاكر، وجعل كمال يراجع أفكاره، وانتصرت رغبته في إرضاء الجماهير وتحقيق الشعبية على القيمة الفنية والخوف من النقد.
ثالثًا، وفاة جمال عبدالناصر، ومشاكل الدولة المصرية المتتالية بعد رحيله، وانحسار دور الدولة في الدعم الفني والثقافي، وتغير علاقتها مع الإنتاج السينمائي، مما خلق فراغاً كبيراً في السبعينيات لم يكن تملؤه غير السينما التجارية.
الاتجاه إلى السينما التجارية
الحوادث الثلاثة، أي عدم وجود إنتاج لأعمال فنية، والنجاح المغري جداً لفيلم تجاري مثل "أبي فوق الشجرة"، والضغط النفسي السياسي الذي يتعرض له فنان في مصر عند محاولته تقديم رؤيته المستقلة بعيدًا عن الانحياز السياسي. كل ذلك، إلى جانب خلفية حكاية تكسير الجمهور لقاعة عرض "المستحيل"، دفعت حسين كمال إلى نهج مسار مختلف تماماً في السينما. إذ قدم أفلاماً تجارية بخلطة شديدة الجماهيرية في نجومها ومواضيعها، سواء كانت تلك المواضيع ميلودرامية مثل "نحن لا نزرع الشوك" (1970)، "دمي ودموعي وابتساماتي"، (1973)، "أفواه وأرانب" (1978)، "حبيبي دائماً" (1980)، "أرجوك اعطني هذا الدواء" (1984)، أو أفلام سياسية تحمل وجهة نظر دولة السادات السياسية في نقد عصر عبد الناصر، مثل "ثرثرة فوق النيل" (1971)، "إحنا بتوع الأتوبيس" (1979)، أو إخراج أفلام تتعمد بشكل واضح الإثارة الحسية مثل أنف وثلاث عيون (1972) على ورق سيلوفان (1975).
لم تخل أغلب تلك الأعمال من بصمات فنية واضحة لحسين كمال، لأن "الزمار يموت وأصابعه تلعب"، مثلما يقول المثل المصري. أو حتى إخراج أعمال قيّمة في صنفها وسياقها، مثل فيلمه الاجتماعي الجيد "إمبراطورية ميم" (1972). ولكن ما حدث بالضبط معه، أنه تخلى عما بدأ به كمشروع سينمائي قوي تجسّد في أفلامه الثلاثة الأولى. واتجه لمنطقة أكثر تجارية ومضمونة أكثر من ناحية الاستمرار والربح. وكان كمال متصالحاً مع هذا الخيار، حتى وفاته في مارس/آذار عام 2003. ولعل أقرب نموذج لحسين كمال، ولكن بخيارات مختلفة، كان المخرج المصري، يوسف شاهين، الذي تعرض لمشاكل مشابهة جداً، حيث شاهد شاهين قاعة فيلم "باب الحديد" وهي تتكسر، بل وقام أحد المشاهدين بالبصق في وجه شاهين. عانى شاهين، أيضاً، من الدولة في إخراج أفلام سياسية مثل "فجر يوم جديد" (1963) أو "العصفور" (1972). أفلامه التجارية التي تتعمّد الإثارة الحسيّة، نجحت بشكل أكبر، وعانى أيضاً من عدم وجود إنتاج مصري بعد وفاة عبد الناصر.
إقرأ أيضاً:أحوال السينما العربية: مصر أولى ثم المغرب...والمخرج بلا هيبة
إقرأ أيضاً:قبل "حاتم".. 5 مشاهد سينمائية شهيرة عن فساد الضباط
خرج، حسين كمال، من القاعة يشعر بضرورة إجراء مراجعة كُبرى لأفكاره. ويؤكد، كما يقول في الحوار ذاته، في برنامج تلفزيوني، أن "فكرة السينما في الأصل، هي حصول تفاعل بين شاشة العرض والمتفرّج الجالس، ولا يجب أن أفقد القدرة على إجراء هذا التفاعل".
التلفزيون المصري فرصة إبداعيّة
هذه الحكاية، ربّما، تفسّر الكثير من خيارات كمال لاحقاً، المخرج الذي تخرج من معهد السينما في عام 1954، وظلَّ لسنوات عاجزاً عن إيجاد فرصة تمكّنه من إيجاد نفسه. قبل أن يبدأ التلفزيون المصري في البث عام 1960، ويصبح التلفزيون بحاجة لـ "سهرات تلفزيونية" ومسلسلات طويلة، الأمرُ الذي أعطى مساحة للرجل ليقدِّم جزءاً من فيضِ موهبته، وأهمُّها فيلمه التلفزيوني "المعطف"، عن قصة لنجيب محفوظ، وفاز ذلك الفيلم بجائزة الدراما في مهرجان التلفزيون عام 1964. ممّا أتاح له أخيراً الإخراج في السينما، بعد اختياره من قبل رئيس مؤسسة السينما، صلاح أبو سيف، حينذاك، ليخرج أول أفلامه "المستحيل" (1965)، من بطولة كمال الشناوي وسناء جميل.
كان "المستحيل" فيلماً مهماً وقيّماً، تأثر كمال عند صناعته بتيارات من السينما العالمية، خصوصاً بالسينما الإيطالية، وبـ "فيديريكو فيليني" على وجه الدقّة. ونجح الفيلم نقدياً، ولكنه فشل جماهيرياً كما تشير الواقعة الشخصية التي جرت معه في البداية. ولكن كمال استمر في طموحه الفني، وأخرج فيلمين مهمين جداً هما "البوسطجي" (1968) عن قصة يحيى حقي وبطولة شكري سرحان، ثم عمله الملحمي "شيء من الخوف" (1969).
ثلاثة أحداث غيّرت مساره الفني
في تلك المرحلة، حدثت ثلاثة أمور مهمّة بالتوازي، غيرت من مسار وحياة حسين كمال بالكامل، وجعلته "يصعد فوق الشجرة".
أوّلاً، المشاكل الرقابية الأمنية التي تعرض لها فيلم "شيء من الخوف" واتهامه بالخيانة وتجسيد شخص الرئيس جمال عبدالناصر، في شخصية الطاغية "عتريس". وقتها، مرّ كمال بضغط نفسي هائل، حتى تدخل عبدالناصر بنفسه، وأجاز عرض الفيلم. ولكن، بعد مشاكل شخصية وفنية عديدة ومعقدة، وتأخر في عرض الفيلم استمرّ لعام تقريباً.
ثانياً، اتصال عبدالحليم حافظ بكمال، وطلبه إخراج فيلم استعراضي له. وأخرج كمال له فيلم "أبي فوق الشجرة" (1969) والذي حقق نجاحاً مذهلاً في شباك التذاكر، وجعل كمال يراجع أفكاره، وانتصرت رغبته في إرضاء الجماهير وتحقيق الشعبية على القيمة الفنية والخوف من النقد.
ثالثًا، وفاة جمال عبدالناصر، ومشاكل الدولة المصرية المتتالية بعد رحيله، وانحسار دور الدولة في الدعم الفني والثقافي، وتغير علاقتها مع الإنتاج السينمائي، مما خلق فراغاً كبيراً في السبعينيات لم يكن تملؤه غير السينما التجارية.
الاتجاه إلى السينما التجارية
الحوادث الثلاثة، أي عدم وجود إنتاج لأعمال فنية، والنجاح المغري جداً لفيلم تجاري مثل "أبي فوق الشجرة"، والضغط النفسي السياسي الذي يتعرض له فنان في مصر عند محاولته تقديم رؤيته المستقلة بعيدًا عن الانحياز السياسي. كل ذلك، إلى جانب خلفية حكاية تكسير الجمهور لقاعة عرض "المستحيل"، دفعت حسين كمال إلى نهج مسار مختلف تماماً في السينما. إذ قدم أفلاماً تجارية بخلطة شديدة الجماهيرية في نجومها ومواضيعها، سواء كانت تلك المواضيع ميلودرامية مثل "نحن لا نزرع الشوك" (1970)، "دمي ودموعي وابتساماتي"، (1973)، "أفواه وأرانب" (1978)، "حبيبي دائماً" (1980)، "أرجوك اعطني هذا الدواء" (1984)، أو أفلام سياسية تحمل وجهة نظر دولة السادات السياسية في نقد عصر عبد الناصر، مثل "ثرثرة فوق النيل" (1971)، "إحنا بتوع الأتوبيس" (1979)، أو إخراج أفلام تتعمد بشكل واضح الإثارة الحسية مثل أنف وثلاث عيون (1972) على ورق سيلوفان (1975).
لم تخل أغلب تلك الأعمال من بصمات فنية واضحة لحسين كمال، لأن "الزمار يموت وأصابعه تلعب"، مثلما يقول المثل المصري. أو حتى إخراج أعمال قيّمة في صنفها وسياقها، مثل فيلمه الاجتماعي الجيد "إمبراطورية ميم" (1972). ولكن ما حدث بالضبط معه، أنه تخلى عما بدأ به كمشروع سينمائي قوي تجسّد في أفلامه الثلاثة الأولى. واتجه لمنطقة أكثر تجارية ومضمونة أكثر من ناحية الاستمرار والربح. وكان كمال متصالحاً مع هذا الخيار، حتى وفاته في مارس/آذار عام 2003. ولعل أقرب نموذج لحسين كمال، ولكن بخيارات مختلفة، كان المخرج المصري، يوسف شاهين، الذي تعرض لمشاكل مشابهة جداً، حيث شاهد شاهين قاعة فيلم "باب الحديد" وهي تتكسر، بل وقام أحد المشاهدين بالبصق في وجه شاهين. عانى شاهين، أيضاً، من الدولة في إخراج أفلام سياسية مثل "فجر يوم جديد" (1963) أو "العصفور" (1972). أفلامه التجارية التي تتعمّد الإثارة الحسيّة، نجحت بشكل أكبر، وعانى أيضاً من عدم وجود إنتاج مصري بعد وفاة عبد الناصر.
إقرأ أيضاً:أحوال السينما العربية: مصر أولى ثم المغرب...والمخرج بلا هيبة