منذ أن امتلك الإنسان رفاهية البحث عن إجابات للأسئلة المهمة التي شغلت عقله، وعرف طريق الفلسفة وعلوم المنطق، شغل عقله البحث عن إجابة للسؤال الأكثر شيوعًا بين البشر، على اختلاف ثقافاتهم: "هل الإنسان مُسيّر أم مُخيّر؟". كثرت الإجابات وتنوعت، قبل أن يزداد أُفق الإنسان اتساعًا، ويبدأ في التساؤل والبحث حول ماهية الاختيار نفسه؛ وهل ممكن أن يصبح نوعًا من العذاب المقيم للإنسان. وربما يتمنى عندها ألا يمتلك هذه الرفاهية من الأساس.
وكالعادة، كانت للسينما مساهمات بارزة؛ بحثًا عن إجابة لأسئلة مختلفة حول رفاهية الاختيار التي يمتلكها الإنسان، أو لعلّ بعضهم يظنون أنها بالفعل رفاهية!
أن تكون خائنًا للعائلة أو مجرمًا، لكَ حرية الاختيار
عندما سألته حبيبته عن عائلته، وطبيعة عملهم المريب الذي لا تعرفه، أجابها: "هذه عائلتي، لكنني لا أشبههم". هكذا كان يظن الشاب الجامعي، مايكل، أنه يمكن أن يصف طبيعة علاقته بعائلته، في المشهد الافتتاحي البديع للجزء الأول من ثلاثية "العرّاب". على الجانب الآخر، كان الأب، دون كورليوني، يدير شؤون العائلة الخاصة في مكتبه، في الظل بعيدًا عن أضواء حفل زفاف ابنته الدائر في الخارج؛ كما اعتاد دومًا أن يفصل بين أمور العائلة الخاصة، وأمور عمله الإجرامي شديد الخصوصية.
ثم تحدث الخيانة، يُطلق الرصاص على الأب، زعيم العائلة؛ فيرقد في المستشفى بين الحياة والموت، ويُترك زمام العائلة للابن الأكبر المتهوّر سوني. هنا، كان الابن الأصغر، مايكل، الذي أدى دوره ببراعة يستحق الحديث عنها مقال منفصل النجم آل باتشينو، أمام أصعب اختيار في حياته، والذي سيترتب عليه واقع ما تبقى له في الدنيا: "هل يتخلى عن عائلته ووالده الذي يحبه رغم اختلافه معه بخصوص عمله؟ أم يقف بجانبهم ويصبح جزءًا منهم، هو الذي رفض دومًا أن يكون جزءًا من عملهم الإجرامي؟".
اختار مايكل صف العائلة، وكانت بداية تحوّله هو قيامه بقتل مَن حاول قتل أبيه. سافر لإيطاليا هاربًا لفترة، ثم عاد بعد اغتيال أخيه الأكبر سوني؛ ليصبح قائدًا للعائلة، الأب الروحي الجديد، بعد أن تقاعد الأب وتُوفي في ما بعد. انتقم مايكل من الجميع، قضى على الخونة، من دون رحمة. حتى زوج أخته الخائن قُتل؛ جزاء خيانته.
انحاز مايكل لمصلحة العائلة، على حساب اختياراته لنفسه في بداية حياته، عندما كان يمتلك رفاهية الرفض. انحاز بعقله، لكن روحه لا زالت عالقة في تيه الحيرة، لم تعرف الاستقرار. ظل القلب قلقًا، وإن بدت ملامحه باردة جامدة وهو يأمر بقتل هذا وذاك. في الجزء الثالث من الفيلم، كبر مايكل، أصبح عجوزًا في نهاية العمر، يسعى للحفاظ على سلامة أبنائه، ويحاول الخروج بالعائلة من أعمال الإجرام، والاكتفاء بالأعمال الشرعية فقط، لكن مُجريات الواقع تدفعه دفعًا للعكس؛ حتى أنه يقول في أحد المشاهد: "كلما حاولت الابتعاد عن الجريمة، تجذبني جذبًا إليها!".
يموت "مايكل" وحيدًا، على كرسيه، لا يصاحبه أحد في مكان مُقفر، بعد أن قُتلت ابنته أمامه بسبب عمله، واختياره.
مثله مثل كثيرين منّا؛ لم يمتلكوا يومًا رفاهية الاختيار، إلا بين السيئ والأسوأ. صديقة لي قالت أمامي يومًا ما، وهي تتحدث عن نفسها: "لما بفكر في حياتي، بلاقي إني دايمًا كنت محطوطة في اختيار بين حاجة وحشة، وحاجة أوحش منها! كل مرة كانوا يقولولي اختاري بين عذاب وعذاب تاني، كأن الاختيار إني أختار بين طريقتين للموت. ولو حاولت أختار حاجة تالتة تناسبني، أبقى أستاهل اللي يجرالي".
مبعوث أرض الخوف، بسبب قرار واحد
"أنا لما ابتديت المهمة، كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح، كنت متأكد من اللي أنا بعمله. بعد كده ابتديت أحس إن أنا بشوف الصورة من ورا لوح إزاز، وبالتدريج ابتدت تتكون طبقة كده زي التراب، والمشكلة إن التراب ابتدا يزيد؛ لدرجة إني مبقتش أشوف أي حاجة؛ صورة ضبابية. الذكريات اختلطت مع الأحلام مع الأوهام مع الحقايق. الفترة الأخيرة بقيت أحلم بكوابيس، وأصحى خايف؛ مش عارف من إيه. بقيت أسأل نفسي سؤال: أنا ليه بقيت كده؟!".
هكذا عبّر يحيى المنقبادي، أو آدم؛ بطل فيلم "أرض الخوف"،ـ عن نفسه، بعد مرور سنين من قبوله لمهمته في أرض الخوف. قرار واحد اتخذه بالموافقة على المهمة التي عُرضت عليه من أحد رؤسائه في جهاز الشرطة، بأن يصير جاسوسًا لهم في عالم تجار المخدرات، لكنه جاسوس من نوع مختلف، في مهمة مخيفة من نوع متميز؛ جاسوس يمارس الجريمة، ولا يتظاهر بممارستها. ينغمس في الوحل حتى أذنيه؛ يقتل ويسمم الناس ويجمع المال الحرام؛ في سبيل كشف خبايا عالم تجارة المخدرات لجهاز الشرطة.
خلال رحلته في أرض الخوف، لم يعد يحيى يدرك هويته الحقيقية، هل هو حقًا ضابط شُرطة، أم تاجر مخدرات؟ حتى أنه في بعض اللحظات فقد القدرة على تمييز: هل ما يحياه واقع أم خيال؟ وهل المهمة التي انقلبت حياته بالفعل حقيقة، أم وهم نسجه عقله بإحكام ليحيا فيه؟
أصبح يحيى سجينًا داخل روحه التائهة؛ حتى أنه لم يعد متأكدًا من هويته ودوافعه الحقيقية لما يرتكب من جرائم. كل هذا حدث بسبب قرار واحد، لا مجال للتراجع عنه. اعتبر الكثيرون الفيلم تجسيدًا لقصة آدم في الروايات الدينية، وقراره بأكل التفاحة من الشجرة المُحرّمة، وما ترتب عليه من خروجه من الجنة ونزوله للأرض، ومن بعده نسله. يحيى مثله، وافق على العرض، وأكل التفاحة المُحرّمة؛ ربما ظنًا منه أنه قويّ بما يكفي لتحمّل الحياة في أرض الخوف. لكنه اكتشف متأخرًا جدًا أنه قرار لا يمكنه التراجع عنه. كما يكتشف الكثيرون منّا بخصوص قرارات أقل حدة، لكن أثرها يكون مُدمرًا لما تبقى من حياتهم، دون أن يمتلكوا رفاهية التراجع عنها. قرارات مثل اختيار مجال الدراسة، والعمل، وشريك الزواج. قرارات قد يدفع بك خطأك في إحداها إلى متاهة أرض الخوف. ثم تحاول التراجّع، وتكتشف كم هي صعبة، أو تكاد تكون مستحيلة في الواقع.