07 أكتوبر 2024
في عنف لغة الخطاب
تُعد لغة الخطاب المستخدمة بين الناس في فترة معيّنة بمثابة مرآة عاكسة لـ"الحالة الحضارية" للمجتمع في تلك الفترة، فلغة الخطاب انعكاس مباشر لمنظومة القيم السائدة في المجتمع، كما أنها تعكس اتجاه الحراك الاجتماعي، وآلياته، ومدى التكوين القيمي، والتعليمي للنخبة، أو الطبقة المتصدّرة لحركة الصعود الاجتماعي.
يتكون من لغة الخطاب التي تستخدمها النُخَب السياسية، والفكرية، والثقافية في إنتاجها وتفاعلاتها، معجم المفردات الخطابية لعموم الناس، وهي بمثابة الروافد الأساسية للغة الخطاب السائدة في المجتمع، والتي يمكن من خلالها استكشاف مدى صعود خطاب فترة ما أو هبوطه.
وفي الفترة الأخيرة، تدهورت لغة الخطاب بشدّة، وهبط مستوى المعارك النخبوية من كل التيارات إلى مستوى بالغ الإسفاف من العنف الخطابي المُتبادَل الذي صار مرئياً، ومقروءاً، ومسموعاً، على شاشات الفضائيات وصفحات الصحف، فضلاً عمّا تمطرنا به غالبية الإنتاج "الفني"، سينمائياً كان أم درامياً أم غنائياً، والذي صار مُترعاً بالتدني، والإسفاف، والبذاءة.
الطريف والمأساوي أن بعضهم خلط بين ما هو "أخلاقي" وما هو "أيديولوجي" أو "طبقي"، عندما ظنّ أن اللجوء إلى الإسفاف واستخدام مفردات خارجة في التعبير عن الرأي، من سمات "الثورية" التي تعني كسراً للوصاية الأبوية، وتحررّاً من القواعد التقليدية الاجتماعية الجامدة التي أرستها "البورجوازية" القديمة التي من سماتها النفور من الألفاظ الخارجة.
الأنكى والأدهى أن بعضهم من الشخصيات المنسوبة للدعوة خرجوا علينا، أخيراً، بسمت "دعوي" من أجل "التأصيل الشرعي" للشتم والبذاءة، من دون حياء أو خجل (!) ولا يدري أولئك أن حزبيتهم قعدت بهم (أو بالأدق هبطت بهم) إلى الدرك الأسفل، عندما أرادوا "تطويع" النصوص الشرعية، بتأويلاتٍ فاسدةٍ ولغة تدليسية، لأجل خدمة أغراضهم الحزبية.
كانت الحقبة شبه الليبرالية في مصر، والتي تلت ثورة 1919 المجيدة حتى انقلاب 23 يوليو 1952، فترة ثريّة وشديدة الخصوبة، سياسياً، وفكرياً، وثقافياً، بسبب انفتاح المجال العام فيها، وهو ما تؤكده ضراوة المعارك السياسية، والفكرية التي اتخذت طابعاً سجالياً بين أطرافها، وقد كانت ساحاتها صفحات الصحف المختلفة المعبّرة عن مختلف الأحزاب السياسية، والتوجهات الفكرية، وكانت السمة الأساسية لها لغة الخطاب الرفيعة والبالغة الرقي، حتى في أعتى لحظات النقد والهجوم.
كتب الدكتور محمد صابر عرب في كتابه "المفكّرون والسياسة في مصر المعاصرة: دراسة في مواقف عبّاس محمود العقّاد السياسية" أنه في العام 1934 نشب خلاف كبير بين مصطفى النحّاس باشا وعبّاس محمود العقّاد حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه وزارة توفيق نسيم باشا، واتسعت مساحة الخلاف، حتى أطاحت العقّاد من حزب الوفد، في مرحلة لاحقة، بعدما كان لسان "الوفد" في مواجهة خصومه.
وقد اندلعت على خلفية هذا الخلاف معركة هجائية حادّة بين العقّاد و"الوفد"، كانت ساحتها
صفحات الصحف مثل "روز اليوسف" و"كوكب الشرق"، وشهدت المعركة تجاوزاً من الطرفيْن، وخروجاً عن حدود الموضوعية، ووصف مؤرّخون خطابها بأنه كان قاسياً هبط إلى الدرك الأسفل. كتب العقّاد مهاجماً النحّاس باشا: "النهضة قد تطوّرت إلى وفد، والوفد قد تطوّر إلى زعامة، والزعامة قد تطوّرت إلى زعيم، والزعيم هو مصطفى النحّاس، والنحّاس هو مكرم عبيد"، "فالنحّاس ليس كاتباً ولا خطيباً ولا مهيباً، وليس فيه من دواعي الشهرة سوى مشابهته للعامة في الذوق والشعور، فهو لا يقيس الشهرة ولا العظمة ولا المجد ولا أقدار الرجال، إلا بالمقياس الذي يعرفه العاميّ في الأسواق، والزفّة التي تُطربه وتعجبه هي الزفّة التي تُعجب ذلك العاميّ وتطربه بغير اختلاف كبير أو صغير".
وكتب مكرم عبيد باشا رداً على العقّاد: "أليس عجيباً أن يطعن العقّاد في زعامة النحّاس ووطنية مكرم عبيد؟ وهلا أدرك المسكين بذلك أنه وضع نفسه بين شقي الرحى، إذ لا مفرّ له من أحد أمريْن: فإما أنه كان يبغي المديح نفاقاً، أو أنه كان يبغي من ورائه أجراً، وكلا الأمريْن شرّ وأحلاهما مرّ". ثم راح عبيد يتهّم العقّاد بالجهل، وسوء الخلق "فهو مثله في أدبه، مثله في شعره، مثله في وطنيته ...قوّال طبّال ..أما إذ انكشف عنه الغطاء، وانقشع الطلاء فهو هباءٌ وهواء".
المفارقة الطريفة أنه، وبعد هذه المعركة ببضع سنين، وقع أشهر انشقاق حزبي في تاريخ مصر الحديث بين أشهر صديقيْن في تاريخ السياسة المصرية، وهما مصطفى النحّاس باشا ومكرم عبيد باشا. ففي العام 1943، انشقّ مكرم عبيد عن حزب الوفد، بعدما كان الرجل الثاني فيه، وأسسّ حزب "الكتلة الوفدية"، وذهبت به خصومته لرفاقه القدامى إلى أمد بعيد، حيث دفعته إلى تأليف "الكتاب الأسود في العهد الأسود"، باعتباره عريضة رفعها إلى الملك، جمع فيه "أشباه" اتهامات بدت طريفة، ومضحكة رأى فيها "شبهات" من فساد وجههّا لحكومة "الوفد" عامة، ولصديقه ورفيقه القديم النحّاس باشا بصفة خاصة.
وردّت حكومة "الوفد" على تلك الاتهامات تفصيلاً، بإصدارها "الكتاب الأبيض"، وجرت مواجهة عاصفة حامية بين الطرفيْن، تحت قبّة البرلمان، روى تفاصيلها القيادي الوفدي الراحل، إبراهيم طلعت بك، في مذكراته "أيام الوفد الأخيرة"، انتهت بفصل مكرم عبيد من مجلس النوّاب. وخلال تلك المواجهة، تصدّى النحّاس باشا بنفسه للردّ على الاتهامات التي ساقها ضدّه عبيد عبر خطابٍ رفيع بليغ في مجلس النوّاب، جاء فيه: "ولكن الكذوب المحتال دأب على الكذب والتهويل والتشنيع، فجعل عشرات الجنيهات آلافاً، ليشككّ في أمانة مصطفى النحّاس الذي عُرِف بالتعففّ عن الحرام في كل شأن خاص أو عام. وستتبيّنون على الأسئلة المتتابعة عن كتابه أن أكاذيبه لا تُحصى بالعدد، كما أنها لن تنقضي مدى الأبد، وسيسيل لعابه بالمفتريات، حتى يغرق فيها ويقتله سمّه المنبعث من فيه، وعندئذٍ يعلم أن كذبه كالسراب قد يلمع، ولكنه لا ينفع".
وبعد تفنيد اتهامات مكرم قال النحّاس "هذا بعض ما افتراه مكرم عبيد مخترع الأباطيل ملفق الأضاليل، على مصطفى النحّاس، وحرم مصطفى النحّاس، وآلهما وذويهما".
واختتم خطابه بقوله "يُحكى أنه كان في مصر شخص يُسمى مكرم عبيد، بلغ من الشهرة أقصاها، ومن المنزلة منتهاها، قرّبه رئيسه وعظّمه زعيمه، حتى إذا بلغ القمّة، وظنّ أن لا أحد بعده، أخذه الغُرور وزيّن له الشيطان الغَرور، فسقط من حالقٍ مُحطّم العقل مُزعزَع الفِكر... كان في مصر شخص بهذا الاسم، فانمحى من الوجود السياسي ذلك الاسم ...رحمه الله".
هكذا كان العنف الخطابي في معركتيْن من أعنف المعارك النخبوية في حقبة مضت، ويشعر المرء بأنّ الحزن يعصره عصراً، والأسى يؤزّه أزّاً، عندما يُقارن ذلك الخطاب الراقي، حتى في عنفه وهجائه، بما يلاحقه حالياً من قُبح بمختلف الأشكال أينما ذهب، ومطاردة القبيح من شأنها إلفه والاعتياد عليه، و"إلف القبيح مَتْلَفَةٌ للإحساس والعقل جميعاً"، وفقاً للراحل الكبير محمود محمد شاكر.
ليست هذه "نوستالجيا"، وليست موعظة أخلاقية، وإنّما مقارنة تحمل الكثير من الدلالات المؤسفة سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، وتُظهِر بوضوح كيف كنّا؟.... وأين صرنا؟...وإلى أين نسير؟
يتكون من لغة الخطاب التي تستخدمها النُخَب السياسية، والفكرية، والثقافية في إنتاجها وتفاعلاتها، معجم المفردات الخطابية لعموم الناس، وهي بمثابة الروافد الأساسية للغة الخطاب السائدة في المجتمع، والتي يمكن من خلالها استكشاف مدى صعود خطاب فترة ما أو هبوطه.
وفي الفترة الأخيرة، تدهورت لغة الخطاب بشدّة، وهبط مستوى المعارك النخبوية من كل التيارات إلى مستوى بالغ الإسفاف من العنف الخطابي المُتبادَل الذي صار مرئياً، ومقروءاً، ومسموعاً، على شاشات الفضائيات وصفحات الصحف، فضلاً عمّا تمطرنا به غالبية الإنتاج "الفني"، سينمائياً كان أم درامياً أم غنائياً، والذي صار مُترعاً بالتدني، والإسفاف، والبذاءة.
الطريف والمأساوي أن بعضهم خلط بين ما هو "أخلاقي" وما هو "أيديولوجي" أو "طبقي"، عندما ظنّ أن اللجوء إلى الإسفاف واستخدام مفردات خارجة في التعبير عن الرأي، من سمات "الثورية" التي تعني كسراً للوصاية الأبوية، وتحررّاً من القواعد التقليدية الاجتماعية الجامدة التي أرستها "البورجوازية" القديمة التي من سماتها النفور من الألفاظ الخارجة.
الأنكى والأدهى أن بعضهم من الشخصيات المنسوبة للدعوة خرجوا علينا، أخيراً، بسمت "دعوي" من أجل "التأصيل الشرعي" للشتم والبذاءة، من دون حياء أو خجل (!) ولا يدري أولئك أن حزبيتهم قعدت بهم (أو بالأدق هبطت بهم) إلى الدرك الأسفل، عندما أرادوا "تطويع" النصوص الشرعية، بتأويلاتٍ فاسدةٍ ولغة تدليسية، لأجل خدمة أغراضهم الحزبية.
كانت الحقبة شبه الليبرالية في مصر، والتي تلت ثورة 1919 المجيدة حتى انقلاب 23 يوليو 1952، فترة ثريّة وشديدة الخصوبة، سياسياً، وفكرياً، وثقافياً، بسبب انفتاح المجال العام فيها، وهو ما تؤكده ضراوة المعارك السياسية، والفكرية التي اتخذت طابعاً سجالياً بين أطرافها، وقد كانت ساحاتها صفحات الصحف المختلفة المعبّرة عن مختلف الأحزاب السياسية، والتوجهات الفكرية، وكانت السمة الأساسية لها لغة الخطاب الرفيعة والبالغة الرقي، حتى في أعتى لحظات النقد والهجوم.
كتب الدكتور محمد صابر عرب في كتابه "المفكّرون والسياسة في مصر المعاصرة: دراسة في مواقف عبّاس محمود العقّاد السياسية" أنه في العام 1934 نشب خلاف كبير بين مصطفى النحّاس باشا وعبّاس محمود العقّاد حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه وزارة توفيق نسيم باشا، واتسعت مساحة الخلاف، حتى أطاحت العقّاد من حزب الوفد، في مرحلة لاحقة، بعدما كان لسان "الوفد" في مواجهة خصومه.
وقد اندلعت على خلفية هذا الخلاف معركة هجائية حادّة بين العقّاد و"الوفد"، كانت ساحتها
وكتب مكرم عبيد باشا رداً على العقّاد: "أليس عجيباً أن يطعن العقّاد في زعامة النحّاس ووطنية مكرم عبيد؟ وهلا أدرك المسكين بذلك أنه وضع نفسه بين شقي الرحى، إذ لا مفرّ له من أحد أمريْن: فإما أنه كان يبغي المديح نفاقاً، أو أنه كان يبغي من ورائه أجراً، وكلا الأمريْن شرّ وأحلاهما مرّ". ثم راح عبيد يتهّم العقّاد بالجهل، وسوء الخلق "فهو مثله في أدبه، مثله في شعره، مثله في وطنيته ...قوّال طبّال ..أما إذ انكشف عنه الغطاء، وانقشع الطلاء فهو هباءٌ وهواء".
المفارقة الطريفة أنه، وبعد هذه المعركة ببضع سنين، وقع أشهر انشقاق حزبي في تاريخ مصر الحديث بين أشهر صديقيْن في تاريخ السياسة المصرية، وهما مصطفى النحّاس باشا ومكرم عبيد باشا. ففي العام 1943، انشقّ مكرم عبيد عن حزب الوفد، بعدما كان الرجل الثاني فيه، وأسسّ حزب "الكتلة الوفدية"، وذهبت به خصومته لرفاقه القدامى إلى أمد بعيد، حيث دفعته إلى تأليف "الكتاب الأسود في العهد الأسود"، باعتباره عريضة رفعها إلى الملك، جمع فيه "أشباه" اتهامات بدت طريفة، ومضحكة رأى فيها "شبهات" من فساد وجههّا لحكومة "الوفد" عامة، ولصديقه ورفيقه القديم النحّاس باشا بصفة خاصة.
وردّت حكومة "الوفد" على تلك الاتهامات تفصيلاً، بإصدارها "الكتاب الأبيض"، وجرت مواجهة عاصفة حامية بين الطرفيْن، تحت قبّة البرلمان، روى تفاصيلها القيادي الوفدي الراحل، إبراهيم طلعت بك، في مذكراته "أيام الوفد الأخيرة"، انتهت بفصل مكرم عبيد من مجلس النوّاب. وخلال تلك المواجهة، تصدّى النحّاس باشا بنفسه للردّ على الاتهامات التي ساقها ضدّه عبيد عبر خطابٍ رفيع بليغ في مجلس النوّاب، جاء فيه: "ولكن الكذوب المحتال دأب على الكذب والتهويل والتشنيع، فجعل عشرات الجنيهات آلافاً، ليشككّ في أمانة مصطفى النحّاس الذي عُرِف بالتعففّ عن الحرام في كل شأن خاص أو عام. وستتبيّنون على الأسئلة المتتابعة عن كتابه أن أكاذيبه لا تُحصى بالعدد، كما أنها لن تنقضي مدى الأبد، وسيسيل لعابه بالمفتريات، حتى يغرق فيها ويقتله سمّه المنبعث من فيه، وعندئذٍ يعلم أن كذبه كالسراب قد يلمع، ولكنه لا ينفع".
وبعد تفنيد اتهامات مكرم قال النحّاس "هذا بعض ما افتراه مكرم عبيد مخترع الأباطيل ملفق الأضاليل، على مصطفى النحّاس، وحرم مصطفى النحّاس، وآلهما وذويهما".
واختتم خطابه بقوله "يُحكى أنه كان في مصر شخص يُسمى مكرم عبيد، بلغ من الشهرة أقصاها، ومن المنزلة منتهاها، قرّبه رئيسه وعظّمه زعيمه، حتى إذا بلغ القمّة، وظنّ أن لا أحد بعده، أخذه الغُرور وزيّن له الشيطان الغَرور، فسقط من حالقٍ مُحطّم العقل مُزعزَع الفِكر... كان في مصر شخص بهذا الاسم، فانمحى من الوجود السياسي ذلك الاسم ...رحمه الله".
هكذا كان العنف الخطابي في معركتيْن من أعنف المعارك النخبوية في حقبة مضت، ويشعر المرء بأنّ الحزن يعصره عصراً، والأسى يؤزّه أزّاً، عندما يُقارن ذلك الخطاب الراقي، حتى في عنفه وهجائه، بما يلاحقه حالياً من قُبح بمختلف الأشكال أينما ذهب، ومطاردة القبيح من شأنها إلفه والاعتياد عليه، و"إلف القبيح مَتْلَفَةٌ للإحساس والعقل جميعاً"، وفقاً للراحل الكبير محمود محمد شاكر.
ليست هذه "نوستالجيا"، وليست موعظة أخلاقية، وإنّما مقارنة تحمل الكثير من الدلالات المؤسفة سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، وتُظهِر بوضوح كيف كنّا؟.... وأين صرنا؟...وإلى أين نسير؟