في مديح الذات عند الإمبراطور أوباما
حينها اعتبر معارضون سوريون كثيرون، كما فعل أتباع إيران، كلّ لسبب يتعلّق بالحفاظ على نقاء سرديته، أنّ ما قاله كيري مجرّد "زلّة لسان". لكن، الحقيقة التي لا يريد الجميع قولها هي أنّ "التلزيم الاستعماري من الباطن" لمقدرات الشعوب العربية إلى مقاولين إيرانيين خيار تمّ رفعه، إلى مرتبة "العقيدة"، منذ مجيء إدارة باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
والحقّ إنّ هنالك سببًا وجيهًا جدًا دفع كيري لقول ما قاله، هو أنّ وظيفة الإفصاح العلني عن التحالفات الدولية طمأنة دورية للحلفاء (إيران والنظام السوري) على الالتزام الامبراطوري بمصالحهما، ولو عارض ذلك قاعدةً ذهبية تشكّل دعامة مركزية للتحالف المصون التي تقول بأنّ أول ما يجب فعله هو تمويهه عبر الصراخ المتبادل عن الخلافات المفترضة، والكاذبة طبعًا، حول "الملف النووي" و"تهديد إيران للغرب".
قد تشعر، أحيانًا، إيران بالخطر بسبب هشاشة الوضع العسكري في سورية، حينها تقول للأميركيين "واجب عليكم أخذ الحذر، أرجوكم!". فتورد مثلًا وكالة رويترز، يوم 24 سبتمبر/أيلول، خبرًا مفاده بأنّ مسؤولًا إيرانيًّا رفيع المستوى يقول إن" الولايات المتحدة الأميركية أعلمت إيران، مسبقًا، بنيتها قصف داعش في سورية، وأنّها لا تنوي قصف مواقع نظام الأسد، حيث كانت إيران قلقة من أن موقع الأسد وحكومته قد يضعفان في حال قصف "الدولة الإسلامية"، وهي كانت قد تطرقت إلى ذلك في اجتماعات مع الأميركيين".
وقال المسؤول، أيضًا، إنّ "المسألة تمّت إثارتها في جنيف، ثمّ نيويورك، حيث تمّ التطمين أنّ لا الأسد ولا حكومته سيتمّ الهجوم عليهما، في حالة تمّ قصف الدولة الإسلامية"، فالإمبراطوريّة الأميركية جادّة، كلّ الجدّة، بحلفها مع دولة الملالي الفارسيّة، كما بيّنت ذلك جريدة واشنطن تايمز، يوم 20 سبتمبر/أيلول، فقد نشرت تقريراً عنوانه "قوات القدس الإيرانية تساعد شيعة العراق بمباركة إدارة أوباما"، وجاء فيه أنّ "الكثير مما تقوم به قوات القدس الإيرانية يتعلّق بالميليشيات العراقيّة"، و"إنّ معركة سدّ الموصل في شمال العراق هي الأولى من نوعها التي يُعرف فيها أنّ الأميركيون قاتلوا فيها، جنبا إلى جنب، مع الإيرانيين. إنّ "قوات القدس" اليوم في سورية تقاتل إلى جانب الرئيس بشار الأسد"، وإنّ الحلف الأميركي –الإيراني "غير معلن". هكذا يصبح سلاح الجوّ الأميركي يعمل بوصفه السلاح الجوّي لقوات القدس الإيرانية المنتشرة في الشرق العربي!
وفي وقت كان المقاتلون الحوثيّون يطوفون فيه في شوارع صنعاء، حاملين صور الخميني وخامنئي، منتشين "بانتصارهم" الذي هنّأهم عليه أمين حزب الله، أخيراً، بوصفها "الثورة اليمنية" الوحيدة، الصحيحة التامة، بطبعتها الفارسيّة، تمّ تسليم العاصمة للميليشيات الحوثيّة من الجيش اليمني الذي وقف عمليًّا متفرّجًا، بإيعاز من إدارة أوباما. وبالتالي، سلّم الاخير اليمن لإيران، حيث اعتبر، في خطابه إلى الأمّة، يوم 10 سبتمبر/أيلول الماضي، أنّ ما يحصل في سورية والعراق دليل على "نجاح الاستراتجية التي اتبعناها في اليمن"، والتي تقول "بدعم شركائنا على الخطوط الأمامية". أمّا نائب العاصمة طهران في البرلمان والمقرّب من المرشد خامنئي، فقد أعلن، حينها، أنّ "ثلاث عواصم أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية الاسلامية"، منبّها إلى أنّ صنعاء هي العاصمة الرابعة التى يحظى أهلها بهذا الشرف الرفيع، وقبلها بغداد وبيروت ودمشق. قال، أيضًا، في إشارة صريحة منه إلى مخططات بلاده الاستعمارية "بالتأكيد إنّ "الثورة" اليمنيّة لن تقتصر على اليمن وحدها وسوف تمتد، بعد نجاحها، إلى داخل الأراضي السعودية، وإنّ الحدود اليمنية الواسعة سوف تساعد في تسريع وصولها إلى العمق السعودي".
كان الجزء الأكبر في خطاب أوباما، يوم 24 سبتمبر/أيلول الماضي، أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة، تكرارًا مملاًّ بلغة خلاصية، عن المهمة التي حباها الله لأميركا في "مكافحة الإرهاب"، لتنقذنا كلنا من "براثن داعش". لكن، جاء الخطاب، أيضاً، بمثابة التجلّي الاكبر لحلف الولايات المتّحدة مع إيران، فروعيت القاعدة الذهبية التي تقول بضرورة تمويه الحلف مع إيران، عبر اللغو حول تهديد المشروع النووي الإيراني، غير أنّ الرجل بدا، هذه المرة، لطيفًا للغاية تجاه القادة الفرس، فطمـأنهم قائلًا "نستطيع الوصول إلى حلّ يضمن لكم مصادر الطاقة، ونضمن للعالم أنّ برنامجكم النووي سلمي". أما بالنسبة للأسد ونظامه، فعرّج عليهما الرئيس بخجل، وتمّ لوم الأسد بعض الشيء على "وحشيته"، على الرغم من أنّ أوباما لم يتحفنا، هذه المرّة، بصرخته المعهودة عن "فقدان الأسد الشرعية" التي يطلقها في كلّ عرس. بل قام بخطوة فريدة من نوعها، إذ مدح حزب الله في لبنان، بوصفه من "الفصائل اللبنانية التي تنبذ من يريدون أن يبدأوا الحرب"، بما أن الحزب المذكور أصبح ينسّق مع الامبريالية الأميركية بشكل حثيث، لكن تحت الطاولة، كما أفادت بذلك "نيويورك تايمز" قبل يومين من الخطاب.
ذكر أوباما في خطابه كيف أنّ "وحشيّة الإرهابيين في كلّ من سورية والعراق تجبرنا على النظر في قلب الظلام". يحيل رئيس النظام الأميركي، هنا، إلى رواية "قلب الظلام" لجوزف كونراد، المهاجر البولندي إلى انكلترا عام 1899. تخبرنا الرواية القصيرة عن رحلة في قارب يقوم بها الراوي شارلز مارلو، بحثًا عن كورتز، انطلاقًا من نهر التايمز الانكليزي الى منبع نهر الكونغو في إفريقيا والأحداث المريعة التي تخللها ذلك، وصولًا إلى "قلب الظلام" الأفريقي، حيث يُعثر فيه على السيد كورتز متزعّما قبيلة "متوحشين" والذي يموت في النهاية. "قلب الظلام" هي، أيضاً، أفريقيا التي تقع مقابل أوروبا مركز "الحضارة"، أيّ ما مثّلته حينها الامبراطورية البريطانية. وبالطريقة نفسها، يتخيّل رئيس أكبر امبراطورية مهيمنة في التاريخ موقعه بصفته كورتز عصرنا، هو المحتار أمام المهمات الجسيمة التي تواجهه في كونه ضامن الأمن العالمي من "تهديد الإرهابيين". وكورتز "البيت الأبيض"، إذ ينقذ العالم، ولو عنى ذلك تزعّم قبائل المتوحشين الجهلة بصفته إلههم، إنّما هو يقوم بمهمته التحضيرية، تماماً كما كان كورتز منصّبا نفسه إلهًا للمتوحشين في الأدغال، والذي أعجب به مارلو، على الرغم من تعامله الوحشي مع السكّان الأصليين طوال الوقت.
منبع النهر و"قلب الظلام" بالنسبة لأوباما، هو ما يحصل، اليوم، في العراق وسورية، حيث تنوب عنه إيران في حراسة تلك الأنحاء. وتماماً مثل كورتز الذي عاش مع متوحشين، ينصبون الرؤوس المقطوعة على الأسيجة في الأدغال الكونغولية، في إحالة إلى ما فعلته "داعش" اليوم، فإنّ أوباما يتزعمنا كمتوحشّين، يتخيّلونه الهًا لهم، في حين يقطعون رؤوس بعضهم. فإتمام الرسالة الحضارية، هنا، هي حرب يقودها هو على رأس جيش من المتوحشين (التحالف الدولي المصون ضد داعش) ضدّ متوحشين آخرين "داعشيين".
إنّ أوباما "الإمبراطور-الإله"، كورتز عصرنا، يشرعن، حينذاك، استعماله غير المحدود لمصائرنا، من أجل "خلاصنا جميعا" بقيادة أميركا. ومن يدري؟ ربما يطلب منا أن نتشكره على ذلك، فهو في نغمة استعطاف مثيرة للشفقة، يتخيّل أنّه، وهو الرجل الذي قصف سبعة بلاد إسلاميّة حتى الآن، وسلّم ثلاثة منها إلى إيران، أنه مثل كورتز الذي يموت على باخرة "نيللي"، متلفظًا باسم حبيبته، بعد إنجاز مهمّته الخلاصية عبر إكماله دراسة "للمجمع العالمي للتخلّص من عادات المتوحّشين"، والتي ذيّلها الأخير بتوصيته "أبيدوا جميع المتوحشين!".
المثير للسخرية، حقًّا، أنّه قد لا يوجد مديح أكثر إكباراً يقدّمه الامبراطور الأميركي الحالي لمستعمَرين ينتفضون عليه، اليوم، وعلى منتدَبيه الكثر في "قلب الظلام"، عندما يمدح نفسه هكذا. فقد تحرّر أفريقيو "قلب الظلام" من براثن الاستعمار البريطاني، بعد أكثر من نصف قرن على كتابة كونراد روايته، فبدا كأنّما الرواية إشارة ضمنيّة إلى بدء مسيرة أفول الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فكم من الوقت نحتاج بعد مديح امبراطورنا نفسه ليتحرّر مستعمَرو "قلب الظلام" من الاستعمار الأميركي-الإيراني؟