07 نوفمبر 2024
في وداع فتى الرواية
حسنا..
كان لهذه الكلمة أن تكون شيئا آخر.. كأن تكون مقدمةً لأمسية شعرية جميلة وحسب، كأن تكون احتفاء ممكنا بالشعر والشعراء، وما يشيعونه في حياتنا من جمالٍ لا نهائي، وتطلع إلى كمال مستحيل.
كأن تكون خالصة لوجه الشعر.. كأن تكون تعزيزا لقيمة ديوان العرب في زمانٍ شحيحٍ بالقيم أيا كان نوعها.. كأن تكون رؤية ذاتية لمفهوم القصيدة باعتبارها الشهوة المستحيلة والملاذ الأبدي.. كأن تكون فرحا، أو أغنية، أو ذكرى من أزمنةٍ سحيقةٍ مفعمة بالقوافي والأوزان، أو سطورا هاربة من الغد لتنبئنا بما يمكن أن يكون مستقبل الشعر وأهله، أو حتى كتابا منسيا على رفٍّ مغبر لمؤلف مجهول ترك أثره، وغادر مسيّجا بعطر المفردات وظلالها..
كأن تكون أي شيء يمكنه، بحيلة ما من حيل الشعراء المهووسين بسحر التحولات، أن يحيلنا إلى الحياة.. كأن تكون اقتراحا سرّيا للعيش على طريق الكلمة..
لولا أن الموت أربكنا، كعادته، وانتزعنا من أحلامنا المؤقتة، ليعيدنا إلى برودته القاتمة حقيقة أولى وأخيرة.
نعم.. لقد كنا بانتظاره، وكنا قد أعددنا العدة لوداعٍ لائقٍ بفتى الرواية القابض على جمرها، لكن هذا الموت المنتظر غافلنا، كعادته، بمهارة الواثقين من الانتصار، واختطف منا صديقنا ناصر الظفيري بعيدا عنا.. وعن وطنه الكويت، وعن مدينته الجهراء.. هناك.. حيث كندا أصبحت هي الوطن "الرسمي" البديل عن الوطن الأزلي.
كان "الأبيض" الذي توحش كثيرا قد ملّ من معركته مع فتى جهراوي صبور، فقرّر أن ينتزع الأسلاك من الذراع النحيلة، ويمتصّ آخر قطرات الأمل المقاوم لمضاد للألم، ويعيد التموضع في الجسد الذي لم يستسلم يوما لبرودة سرير المستشفى، فيحتل ما بقى من مساحاتٍ خاليةٍ منه هنا وهناك، ثم يسد كل الثغرات التي يمكن أن تعبر منها نسمات الحياة إلى القلب الواهن، فيخترق قواعد اللعبة، وينهي الأمر أخيرا بالأسلوب الوحيد الذي يجيده.. بالموت!
قبل عام، تساءلت وأنا أنتهي من قراءة "المسطر"، وهي آخر روايات ناصر: هل كنت أقرأ روايةً، أم أراجع مذكرات جيلٍ تلاشت معظم أحلامه فوق أسفلت شوارع تيماء، وفي غرفها المزدحمة دائما؟ هل كنت أقرأ روايةً أم أبحث عن أخطاء وخطايا هذا الجيل، الذي أنتمي إليه، في رحلة البحث عن اعتراف الآخرين بانتمائه إلى وطن؟ هل كنت أقرأ رواية، أم أفتش بين سطورها عن خيباتٍ عشناها، رجالا ونساء، بعناوين وأسماء مختلفة داخل الوطن وخارجه أيضا؟
لا أعرف تماما.. لكنني متأكدةٌ أن ناصر الظفيري نجح تماما في أن يستدرجني، عبر مهارته القديمة في الكتابة القصصية المشوقة، إلى حيث لم أكن أتطلع أو أريد؛ الشعور بالندم.. حيث لا ينفع ندم.
وعلى الرغم من أنني يومها كنت أعرف أن صاحب المسطر يعيش صراعه الشرس مع السرطان، وأنه بدأ يشعر بقليلٍ من اليأس في حسم الصراع لصالحه، بعد أن أخبره الأطباء بخطورة الحالة الماضية في التدهور السريع، إلا أنني لم أكن أتوقع أن الإجابة ستأتيني بهيئة صورة فوتوغرافية مجلّلة ببياضٍ أليف، لنعشٍ محمول على أكتاف الغرباء نحو قبرٍ لا يكاد يبين تحت وطأة الثلوج المتساقطة فوق ما تراكم منها. لقد بدا ذلك القبر مألوفا لرجلٍ غريب عن تلك الديار، لكنها أصبحت، منذ تلك اللحظة، مثواه الأخير في فناء الدنيا.
رحم الله ناصر وشملنا برحمته جميعا..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة كان يفترض أن تكون بمناسبة الاحتفال بيوم الشعر العالمي فتحولت إلى رثاء لروائي رحل في ليلة المناسبة
كان لهذه الكلمة أن تكون شيئا آخر.. كأن تكون مقدمةً لأمسية شعرية جميلة وحسب، كأن تكون احتفاء ممكنا بالشعر والشعراء، وما يشيعونه في حياتنا من جمالٍ لا نهائي، وتطلع إلى كمال مستحيل.
كأن تكون خالصة لوجه الشعر.. كأن تكون تعزيزا لقيمة ديوان العرب في زمانٍ شحيحٍ بالقيم أيا كان نوعها.. كأن تكون رؤية ذاتية لمفهوم القصيدة باعتبارها الشهوة المستحيلة والملاذ الأبدي.. كأن تكون فرحا، أو أغنية، أو ذكرى من أزمنةٍ سحيقةٍ مفعمة بالقوافي والأوزان، أو سطورا هاربة من الغد لتنبئنا بما يمكن أن يكون مستقبل الشعر وأهله، أو حتى كتابا منسيا على رفٍّ مغبر لمؤلف مجهول ترك أثره، وغادر مسيّجا بعطر المفردات وظلالها..
كأن تكون أي شيء يمكنه، بحيلة ما من حيل الشعراء المهووسين بسحر التحولات، أن يحيلنا إلى الحياة.. كأن تكون اقتراحا سرّيا للعيش على طريق الكلمة..
لولا أن الموت أربكنا، كعادته، وانتزعنا من أحلامنا المؤقتة، ليعيدنا إلى برودته القاتمة حقيقة أولى وأخيرة.
نعم.. لقد كنا بانتظاره، وكنا قد أعددنا العدة لوداعٍ لائقٍ بفتى الرواية القابض على جمرها، لكن هذا الموت المنتظر غافلنا، كعادته، بمهارة الواثقين من الانتصار، واختطف منا صديقنا ناصر الظفيري بعيدا عنا.. وعن وطنه الكويت، وعن مدينته الجهراء.. هناك.. حيث كندا أصبحت هي الوطن "الرسمي" البديل عن الوطن الأزلي.
كان "الأبيض" الذي توحش كثيرا قد ملّ من معركته مع فتى جهراوي صبور، فقرّر أن ينتزع الأسلاك من الذراع النحيلة، ويمتصّ آخر قطرات الأمل المقاوم لمضاد للألم، ويعيد التموضع في الجسد الذي لم يستسلم يوما لبرودة سرير المستشفى، فيحتل ما بقى من مساحاتٍ خاليةٍ منه هنا وهناك، ثم يسد كل الثغرات التي يمكن أن تعبر منها نسمات الحياة إلى القلب الواهن، فيخترق قواعد اللعبة، وينهي الأمر أخيرا بالأسلوب الوحيد الذي يجيده.. بالموت!
قبل عام، تساءلت وأنا أنتهي من قراءة "المسطر"، وهي آخر روايات ناصر: هل كنت أقرأ روايةً، أم أراجع مذكرات جيلٍ تلاشت معظم أحلامه فوق أسفلت شوارع تيماء، وفي غرفها المزدحمة دائما؟ هل كنت أقرأ روايةً أم أبحث عن أخطاء وخطايا هذا الجيل، الذي أنتمي إليه، في رحلة البحث عن اعتراف الآخرين بانتمائه إلى وطن؟ هل كنت أقرأ رواية، أم أفتش بين سطورها عن خيباتٍ عشناها، رجالا ونساء، بعناوين وأسماء مختلفة داخل الوطن وخارجه أيضا؟
لا أعرف تماما.. لكنني متأكدةٌ أن ناصر الظفيري نجح تماما في أن يستدرجني، عبر مهارته القديمة في الكتابة القصصية المشوقة، إلى حيث لم أكن أتطلع أو أريد؛ الشعور بالندم.. حيث لا ينفع ندم.
وعلى الرغم من أنني يومها كنت أعرف أن صاحب المسطر يعيش صراعه الشرس مع السرطان، وأنه بدأ يشعر بقليلٍ من اليأس في حسم الصراع لصالحه، بعد أن أخبره الأطباء بخطورة الحالة الماضية في التدهور السريع، إلا أنني لم أكن أتوقع أن الإجابة ستأتيني بهيئة صورة فوتوغرافية مجلّلة ببياضٍ أليف، لنعشٍ محمول على أكتاف الغرباء نحو قبرٍ لا يكاد يبين تحت وطأة الثلوج المتساقطة فوق ما تراكم منها. لقد بدا ذلك القبر مألوفا لرجلٍ غريب عن تلك الديار، لكنها أصبحت، منذ تلك اللحظة، مثواه الأخير في فناء الدنيا.
رحم الله ناصر وشملنا برحمته جميعا..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة كان يفترض أن تكون بمناسبة الاحتفال بيوم الشعر العالمي فتحولت إلى رثاء لروائي رحل في ليلة المناسبة