لكن العثور على القصر عند نهايات القرن التاسع عشر على يد علماء آثار برئاسة الهنغاري الويز موزيل، سلط الضوء من جديد على تحفة استثنائية، مليئة باللوحات على الجدران والسقوف، تاركاً الرجل تاريخياً للمتصارعين على سيرته، وفاسحاً المجال في العام 1985 ليصبح على لائحة التراث العالمي.
بعد أن تركن الحافلات في مواقفها، يكون في استقبال السائح موظفون يقدمون واجب الضيافة في مبنى محروس جيداً، يتضمن جناحاً صغيراً لبيع الهدايا التذكارية. دليل سياحي من أبناء البادية جعلته الخبرة ملماً بعدة عبارات بلغات أجنبية كالفرنسية والإنكليزية والإيطالية. ويظهر القصر فريداً لا يشاركه في المشهد المفتوح أي شريك.
وبعيداً بضع مئات الأمتار، عليك أن تقطع نحوه مساحة ترابية قليلة التعرج، تغطيها الحصباء. منذ إنشائه في الثلث الأول من القرن الثامن ميلادية، بقي القصر معماراً وحيداً، يتوسط المضارب التي كان يجول فيها الوليد بن يزيد، في البرية كما كانت توصف، أي التي لا تجوز عليها تقاليد المدن والعواصم المدنية.
في البرية هذه عرف الوليد مقارّ عديدة مثل قصر الحَرانة على بعد 16 كيلومتراً من قصر عمرة وقصر الحلابات بمسافة مقاربة، وصولاً إلى قصر المشتّى جنوب العاصمة عمّان، الذي قيّض أن يجاوره مطار الملكة علياء، ومنطقة صناعية.
ولمغرم بالصيد والخيول يمكن القول إن قصر الحلابات، الذي تتبعه مساحة واسعة، مكان سباق الخيل، لمن يرى أنه الحَلَبات، لا الحلّابات، كما هي التسمية الدارجة، بوصفها منطقة رعي المواشي.
أما الحرانة فذو تصميم عسكري بُني قبل مجيء الوليد بسنوات، والمشتّى لم يكتمل بناؤه، فقد توج الوليد بتاج الخلافة عام 743، وقطع ابن عمه رأسه ودفن في البخراء، على بعد "ثلاثة أميال من تدمر"، كما تورد المصادر.
يبقى قصر عمرة المكان الأكثر إغراء لمحبي الآثار، ومتتبعي السير، ومُعملي الخيال. إنه يشبه جنة سرية معزولة، بعيداً عن الضجيج، وعن التزامات السياسة والمجتمع. لا يدخله إلا الخاصة. وهو من الخارج خالٍ من أي زخرفة. ولأنه صغير بحجم نادٍ للنخبة، لا توحي عمارته بالهيبة، وإنما بالأقواس ذات الارتفاع اللطيف التي تغطي مساحة داخلية خاصة، تحت إمرة من اشتهر باسم "خليع بني مروان".
لدى الدخول إلى قاعة الاستقبال والأروقة والحمام، ستكون بين جنبات مليئة بالألوان المائية ولوحات مرسومة بعيداً عن البيروقراطية الدينية والسياسية.
من ملأ القصر الصغير بالجداريات، ورصفه بالرخام والفسيفساء، هم ذاتهم الفنانون والمهرة المسيحيون العرب تحت الحكم البيزنطي سابقاً، لكنهم لم يستطيعوا تحت أوامر الدولة الأموية أن يرسموا في المسجد الأموي وقبة الصخرة والمسجد النبوي في المدينة المنورة إلا زخارف إسلامية، وطبيعة غير عاقلة.
أما في القصر البعيد في البرية، فظهرت إبداعات الرسم على حريتها، من الرموز الدينية غير الإسلامية، والمواضيع البعيدة عن أغراض الدولة القوية التي كان يحكمها هشام بن عبد الملك، عم الوليد، ولي العهد، الذي أدار ظهره للعاصمة دمشق، وركضت خيوله في البرية.
يورد كتاب "تاريخ الفن عند العرب والمسلمين" لأنور رفاعي مواضيع اللوحات والخطوط المنقوشة، ومنها صور أعداء الإسلام، ثلاثة في الصف الأول وثلاثة في الصف الثاني، وفوق أربعة منهم كتابة بالعربية والإغريقية. الأول من اليسار في الصف الأمامي فوقه كلمة قيصر بالعربية والإغريقية هو إمبراطور بيزنطة، والثاني في الصف الخلفي فوقه كلمة يظن أنها لوذريق آخر ملوك القوط في إسبانيا، والثالث في الصف الأمامي فوقه كلمة كسرى ملك فارس، والرابع فوقه كلمة النجاشي ملك الحبشة.
إضافة إلى ذلك هناك قصص ورموز دينية سابقة على الإسلام أو مشتركة معه، لكنها هنا مرسومة مشخصة، على غير ما بدأ الفن الإسلامي يشق طريقه، وهو التجريد.
هنا مساحة تخلد فئة من المجتمع: مهرة تظهر في أيديهم أدوات مثل المسحج والمطرقة، والقدوم، وعمال يشتغلون.
على الجدران نساء عاريات، ورجال شبه عراة يؤدون ألعاباً رياضية، وعازف على العود وآخر ينفخ بالمزمار، وطيور وحيوانات من قرود وغزلان وحمير وحشية ونمور وأسود، أما الدب السوري فرسم وهو يعزف على القيثارة. القبة السماوية تعلو الحمّام، وفيها الأبراج السماوية وللحمام ثلاث قاعات، باردة ودافئة وساخنة، مع أنابيب فخارية للبخار، إضافة إلى غرفة تبديل الملابس.
الماء المستخدم لشتى أغراض الوليد وصحبه، كانت تؤمنه بئر بعمق أربعين متراً، تملأ بمياه الأمطار، أما إذا شحت السماء، فيمكن توقع إحضار المياه على الإبل من واحة الأزرق، القريبة.
منذ عام 723 أصبح الوليد ولياً للعهد، مات أبوه يزيد بن عبد الملك، ولأنه كان في سن المراهقة، آلت الخلافة إلى عمه هشام بن عبد الملك، ريثما يكبر الوليد. والشاب الناهض الممتلئ بذاته ظل ولياً للعهد عشرين عاماً. حتى وهو يناكف عمه الخليفة الذي يدير دولة عظمى، وتثير سلوكياته امتعاضه، ظل يتقاضى مستحقاته المالية، ويصرفها على ملذاته.
وليس التهتك والإلحاد قضية تاريخية، إنما لأن الشاب الذي يقيم في بريته خليفة منتظر، وكتاب التاريخ ينتظرون، ويسمعون الجهاز الدعائي للسلطة وهو يردد أن ولي العهد من الخلاعة حتى إنه لا يصلح للحكم، ويصلح بديلاً عنه ابن الخليفة.
كان قصر عمرة الملاذ لشخصية متيقنة من وراثة المُلك، ولا شيء يضطرها لتعلم تقاليد الحكم في قصور العاصمة. إنه حتى حين أمره الخليفة بالذهاب إلى الحج، وصل الديار المقدسة، ومعه كلاب صيد، وخشية من افتضاح أمرها وضعها في صناديق. في قصره هنا يمكن أن يتحلل من كل التزامات الدولة. إنه لا يحرث الأرض بل يرثها جاهزة مجهزة. ومن ذلك جاء في الأثر سؤال عن صاحب الأرض هل هو "حارث أم وارث؟". لا صوت في البرية سوى الطبيعة البكر.
بيداء غير قاحلة تحيط بقصر عمرة، وواحة قريبة، وهواء جبلي إذا عنّ له أن يقطع المسافة غرباً باتجاه البلقاء. يعود في نهاية مطافه إلى قصر عمرة، إلى العزلة والشيطنة الإبداعية في الغناء والموسيقى والرقص والشعر، والخمر، والجواري، والزيجات السريعة، أشهرها سعدى التي طلقها وتزوج أختها سلمى، وطلقها فتزوجت بشر بن الوليد بن عبد الملك، فبكاها ودعا أن يموت زوجها أو يطلقها. كان له أن يختار أشهر المغنين من ابن سريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمان. في السرد، لا مجال إلا لمن يتصفون بحسن العشرة وحلاوة المجالسة.
والحقيقة أن المطلوب بالضبط مضحكاتي السلطة ومسليها. فهذا شراعة بن الزندبوذ حين بعث في إحضاره، فلما أدخل إليه قال: إني لم أبعث إليك لأسألك عن كتاب أو سنّة. قال: ولست من أهلها. قال "إنما أسألك عن القهوة" (الخمر) وأنواعها. مات الخليفة، وورث الوليد السلطة وحكم سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً، كما يورد كتاب "العقد الفريد" قبل أن يثب ابن عمه عليها فيقتل الوليد ويعلَّق رأسه. اختلفت الروايات في عمره لدى مقتله ما بين 36 سنة (العقد الفريد) وأربعين (البداية والنهاية).
يستبد بالسائح وهو يجول في القصر شعور مغاير عما ينتابه في جولاته بمعالم أخرى مجاورة. لا يمكن إنكار الحضور العميق للوحات. هي ليست مرسومة لهيبة وهيلمان الدولة، بل للمتعة البصرية. ولهذا اكتسى القصر الصغير فرادته على صعيد المؤسسات، وحظي برعاية أممية، لكنه أكثر من ذلك، وبالصور التي تختصر آلاف الكلمات يجد الرائي ذاته نفسه أقرب إلى المعايشة. لكأن الصور تنطق وخيالات الراحلين تعبر في الأروقة.
أهمل القصر على مدار مئات السنين. فمن يحفل بحجارة بعيدة عن الحواضر الكبرى والعواصم التي تعتبر البوادي مساحات ملحقة، للحنين العربي القديم، ولقطّاع الطرق.
إلا أن قصر عمرة الآن درة معالم الأمويين في بيداء الأردن، للرسوم الفاتنة غير الوظيفية في الدولة الإسلامية العظمى، وكذلك لسيرة الوليد المثيرة والمتطرفة، التي كتبت على أعتاب انهيار دمشق وصعود نجم بغداد.