من الإعلام للإغاثة
المكان الذي طالما ضم شباباً من الصحافيين والمصورين، كان هدفهم نقل صورة حقيقية للاعتصام الذي شوّهته وسائل الإعلام، تحول يوم مجزرة الفض، 14 أغسطس/آب 2013، إلى مستشفى ميداني قبل أن يحرق بالكامل.
جثث ومصابون. لا مكان لموطئ قدم، كان ذلك هو حال المركز صباح ذلك اليوم الذي لا يغيب عن مخيلة أحد المصورين فيه، والذي يروي لـ"العربي الجديد" شهادته، رافضاً ذكر اسمه.
يروي الشاب القصة من البداية ويقول "قبل النزول للاعتصام كنت أعمل في المركز الإعلامي لحزب الحرية والعدالة، وبالتالي كانت هناك أقسام كثيرة في المركز للصحافة ونشر الأخبار والإنتاج الفني... وعندما بدأ الاعتصام شارك نفس الفريق تقريبا فيه، ليبدأ عملنا بشكل تقليدي".
عندما تم تدشين "التحالف الوطني لدعم الشرعية وإسقاط الانقلاب"، أصبح هناك مركز إعلامي، وكان فيه متطوعون من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية المشاركة في الاعتصام. في البداية كان المركز عبارة عن مجموعة من الطاولات خلف منصة رابعة، وكان الصحافيون يأتون لإجراء حوارات صحافية مع الرموز السياسية، إلى أن تم نقل المركز بعدها بفترة لقاعة 2، وأصبح اسمه المركز الإعلامي للاعتصام".
يواصل الشاب روايته "داخل هذه القاعة كانت تعقد المؤتمرات الصحافية، وإلقاء بيانات التحالف، أو أي كيان جديد منضم للاعتصام كفنانين ضد الانقلاب أو رياضيين... ولكن الدور الأهم للمركز هو توثيق وجمع أي مواد تخص المجازر التي حدثت تباعاً...".
ويضيف: "كنت مسؤولاً عن فريق من المصورين المتطوعين، أوزعهم على البوابات ليخرجوا مع المسيرات التي كانت تخرج من الميدان، وفي الأيام الأخيرة ومع احتمالات الفض، لم نكن ننام تقريباً، وكنا نوزّع أنفسنا على كل مداخل الميدان".
كاميرا أحمد عاصم
من أكثر المواقف التي لا يزال الشاب متأثرا بها هو "استشهاد مصور "الحرية والعدالة"، أحمد عاصم السنوسي". يتذكر أنه يومها جاء أحدهم إلى المركز الإعلامي وفي يديه كاميرا مغطّاة بالدماء، "وقال إنها كاميرا لمصور استشهد عند الحرس الجمهوري، وقلت له حينها ضعها جانباً ولم أنتبه من كثرة الشهداء". ويضيف: "لكن عندما نظرت للكاميرا عرفتها، لأن العدسة التي كانت فيها كنت قد أعرتها للشهيد أحمد".
أما شهداء المركز الإعلامي في مجزرة الفض، فهم: الصحافية حبيبة أحمد عبد العزيز، والصحافي مصعب الشامي، وكلاهما استشهد وهو يصوّر أحداث المجزرة.
يتذكر صباح يوم المجزرة: "الجيش والشرطة هجما من كل المداخل، والطائرات والقنابل المسيلة للدموع كانت فوق الميدان بكثافة، أنا حينها كنت عند مدخل المنصة مع مجموعة من أصدقائي قبل المجزرة بربع ساعة، ولما بدأ الهجوم، وزعنا أنفسنا كفريق مصورين على جميع المداخل".
تكبيرات المعتصمين وأصوات طرْقهم على أعمدة الإنارة ترن في أذنه حتى الآن، يقول "بدأ المعتصمون في تجميع أنفسهم، وفجأة عادت مدرعات الشرطة التي كانت قادمة من شارع يوسف عباس بالعودة للخلف واختفت عن الأنظار، ولكن في لحظة عندما ألقينا نظرة على الميدان من ناحية "طيبة مول"، وجدنا سُحباً من الدخان والطائرات تقوم بإلقاء القنابل وإطلاق الرصاص عن طريق قناصة". يكمل رواية الذكريات التي لا تفارقه:"الموضوع خرج عن سيطرتنا تماماً، والقنص صار من كل مكان، وكل منا كان يحاول النجاة بنفسه، أنا وعبد الله الشامي وعدد من المصورين احتمينا بمستشفى رابعة عقب العصر، ووصلنا إليها زحفاً على الأرض، لأن القناصة كانوا فوقنا".
بحور الدم
يروي الشاب ما رآه داخل مستشفى رابعة، ويقول "كل طوابق المستشفى كانت عبارة عن جثث ومصابين بين الحياة والموت فوق بعضهم، ومكثنا في الداخل حتى اقتحام القوات الخاصة للمستشفى، وخرجنا منها قرب غروب الشمس".
يتذكر كيف تحوّل المركز الذي كان يعمل فيه مع رفاقه طيلة فترة الاعتصام إلى مكان يؤوي جثث الشهداء، ويقول "أخلينا جزءاً كبيراً من المركز ليتحوّل لمستشفى ميداني باكراً قبيل الفض بقليل تحسباً للهجوم. وعندما خرجت للتغطية، وعدت للمركز في وقت آخر من اليوم، وجدت أن القاعة تحولت لجثث فوق بعضها، والمعتصمين يحاولون جرّ بحور الدم".
لم تنته مأساة الشاب ورفاقه من أعضاء المركز الإعلامي عند هذا الحد أو عند آلام الذكرى، ولكنه منذ ذلك الوقت وهو مطارد من قوات الأمن، لتبدأ مأساة من نوع آخر بعد مجزرة الفض..
يقول: "أصعب ما في الأمر هو عدم الإحساس بالأمان مطلقاً، والتنقل من مكان لآخر كل فترة. فبمجرد أن تستريح في مكان وتبدأ في التأقلم على المعيشة فيه، يبلغنا أحد الأصدقاء بضرورة ترك المكان لاعتبارات أمنية".
أحيانا أخرى، يشعر الشاب بأنه ضيف ثقيل إذا أقام عند أحد معارفه، حتى في منزله لا يشعر بالراحة، بل يشعر أنه يكاد يكون عبئا عليهم، يقول "عندما أذهب لأهلي، أجد مثلاً أمي غير قادرة على النوم من كثرة القلق، وتمكث طوال الليل نائمة على كرسي في الصالة لتكون جاهزة تحسباً لأي شيء".