لا يزال خطر اقتحام مبنى الكابيتول الذي أقدم عليه مؤيدو دونالد ترامب منذ ثلاث سنوات يتردّد صداه، ولا سيما مع اقتراب الانتخابات الأميركية المزمع تنظيمها بعد يومين، ما يطرح تساؤلات حول تكرار هذا السيناريو الخطير مرة أخرى في حال خسارة ترامب، خصوصاً أن الأخير قال إن "الولايات المتحدة كانت أمة فاشلة في عهد بايدن (جو بايدن) وخلال وجود هاريس (كامالا هاريس) في منصبها".
جاء الفيلم الوثائقي War Game لينقل هذه القضية الجدلية إلى منحىً آخر، كونه أثار موضوعاً لم يعرض من قبل على شاشة السينما، إضافةً إلى كونه شديد الراهنية، إذ يتعلق بمستقبل الولايات المتحدة بعد أن يتقرر الرئيس الفائز. قدم مخرجا الفيلم جيسي موس وتوني غيربر أفلاما وثائقية عدّة استقت مضامينها من قضايا السياسة. وفي فيلمهما الأخير، يبدو من اللحظات الأولى أننا أمام تجربة فريدة، فالفيلم الممتد لمدة 94 دقيقة، صوّر محاكاة تدريبية من نوع خاص لا تعرض على الجمهور عادةً. فرضية الفيلم تقول: كيف يمكن لإدارة رئيس أميركي أن تتعامل مع محاولة انقلابية؟ ومن هذا السؤال المشوّق، ينطلق موضوع الفيلم الوثائقي، الذي يتعدى عنصر التشويق القائم على الدراما المتخيلة، فيعتمد على مجريات الأحداث السياسية الأميركية، تحديداً بعد أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، والتي رفض فيها محتجون غاضبون نتائج الانتخابات الرئاسية التي خسر فيها الرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي دونالد ترامب.
حينها، اقتحم هؤلاء المحتجون المناصرون للرئيس الجمهوري مبنى الكابيتول، رمز ومقر السلطة التشريعية الأميركية؛ المبنى الذي يرى فيه الأميركيون تجسيداً لديمقراطيتهم، عدا عن ارتباطه الوثيق بتاريخ الولايات المتحدة. لم يكن الفيلم من بنات أفكار صانعيه، فهو عمل وثائقي، ألهمهما لتصويره تدريب للأمن الوطني نظّمته مؤسسة Vet Voice Foundation (صوت المحاربين القدامى)، وهي مؤسسة غير ربحية تأسست عام 2009، تهدف، حسب مؤسسيها، إلى تمكين المحاربين القدامى من التأثير في السياسة، كما ترتبط بشخصيات مؤثرة من داخل المنظومة السياسية الأميركية. تبدأ "صوت المحاربين القدامى" بتدريب استراتيجي يقتضي تكرار أحداث الكابيتول 2021، ولكن مع فارق خطير وهو تمرد في الجيش وانشقاق في قوات الحرس الوطني للولايات.
جرى تنظيم المحاكاة السرية هذه في يناير/كانون الثاني 2023، على بعد خطوات من مبنى الكابيتول، بوجود مشاركين من صناع القرار السياسي الأميركي، ينتمون إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية، كما عملوا سابقاً في وزارة الدفاع والاستخبارات، إضافةً إلى مسؤولين سياسيين منتخبين. تولى المشاركون مناصب مؤثرة في خمس إدارات رئاسية، كان من بينهم ستيف بولوك حاكم ولاية مونتانا سابقاً، والجنرال المتقاعد ويسلي كلارك القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا بين عامي 1997 و2000، وبيتر ستروك عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي.
فرضية "صوت المحاربين القدامى" أثارت اهتمام المخرجين، اللذين أخذا الإذن بعد مفاوضات مع المؤسسة لتحويل المحاكاة إلى فيلم تمتزج فيه المادة الوثائقية مع بنية درامية تشويقية، وذلك بهدف إيصاله إلى جمهور أوسع. يشرح موس طبيعة الفيلم فيقول إنّه "عبارة عن جزء من فيلم وثائقي وجزء آخر من نوع الخيال العلمي الديستوبي، وثالث من المسرح المرتجل"، مضيفاً أن War Game "من شأنه مساعدة الأميركيين على التفكير في مواجهة التهديدات الأمنية". أما غيربر، فيكشف جانباً آخر لخصوصية الفيلم، ويقول إنّه جرى توثيق المحاكاة في تقرير مؤلف من 100 صفحة، ومن ثم عُرِض على البنتاغون والبيت الأبيض؛ فهاتان المنظومتان هما "جمهور" Vet Voice الأساسي، لكن تحويل هذه التجربة إلى فيلم يعني نقلها إلى فئات عريضة من الجمهور، ولا بد أن يخلق نقاشا في المجتمع حول طبيعة التهديد الموجه ضد "الديمقراطية الأميركية".
وهذا تحديداً ما يمكن وصفه بأنه دليل دامغ على أن الغاية الحقيقية للفيلم هي بروباغندا سياسية تتكشف تدريجياً مع مرور الدقائق الأولى من الفيلم. المحاكاة التي وثقها War Game تنطلق من أن الولايات المتحدة تمر بفترة سياسية مقلقة، لا سيما مع صعود تيارات راديكالية داخل القوات المسلحة. وتهدف المحاكاة إلى الاستعداد لسيناريوهات ديستوبية قد تواجهها البلاد. ومع أن المشاركين في الفيلم ينتمون إلى كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إلا أنّ War Game قدم أنصار ترامب بوصفهم "الأشرار"، من دون أن يحاول فهم أحداث الكابيتول وما الذي حركها بالضبط، فيجري تقديمها بتجرّد واختزال بصفتها "مؤامرة على الديمقراطية".
لم يكتف صناع الفيلم بتصوير واقعهم المصطنع، بل استخدموا كثيراً من اللقطات الأرشيفية لأحداث 2021، وجرى توظيفها بما يكفي لإيصال رسالة لا لبس فيها عن طبيعة "أعداء الديمقراطية" وخلفياتهم السياسية، حتى أن المَشاهد التي جرى تصميمها خصيصاً للمحاكاة حملت عناصر بصرية مشابهة للمظاهرات الداعمة لترامب.
يضع War Game المشاركين فيه بلحظاتٍ حرجة، فيقدم تمثيلية لانتخابات رئاسية يتنازع فيها المتنافسون، ويرفض الخاسر الاعتراف بخسارته. في سيناريو معد مسبقاً، يضطر فيه أعضاء إدارة ومستشاري الرئيس الحالي جون هوثام (وهم جميعهم شخصيات متخيلة) التعامل مع محاولة لإعاقة إعلان نتيجة الانتخابات في الكونغرس، يرافقها انشقاقات في صفوف الحرس الوطني. وعلى الضفة المقابلة من هوثام، هناك المرشح الخاسر، أو البطل المضاد كما يُسمّى في السينما، فهو روبرت ستريكلاند، منافس هوثام، الذي يتحرك بالتناغم مع تصريحات نارية يطلقها عسكري سابق يلقب بالبطريرك، ويقود منظمة قومية مسيحية تسمى "وسام كولومبوس"، وتلعب دور تحريض وقيادة الشارع المنتفض، وتعمل على نشر أخبار مزيّفة على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك وفقاً للسيناريو الذي أعدته Vet Voice.
تقتضي قواعد اللعبة أن يتدبر الفريق الأزرق (الرئيس هوثام ومساعدوه) أمر الأزمة الطارئة خلال ست ساعات فقط. يبدو من سياق الأحداث أن المطلوب هو إدارة الأزمة من دون تصعيد الموقف، وتحديداً من دون اللجوء إلى تفعيل قانون التمرد الأميركي (Insurrection Act) وهو ما تصفه المحاكاة بالـ"الخيار النووي"، إذ يسمح هذا القانون للرئيس باستخدام القوات المسلحة والموارد الفيدرالية لفرض القانون والنظام داخل البلاد بالقوة، هذا في حال فَشَل السلطات المحلية أو عدم قدرتها على التعامل مع اضطرابات كبيرة تهدد السلامة العامة أو الأمن القومي، ما يعني أن يدخل الجيش الأميركي في مواجهات مفتوحة مع الشعب. تبدأ اللعبة من غرفة العمليات، التي تضم كل أعضاء "الفريق الأزرق" يتواصلون من خلالها مع العالم الخارجي، ويمكنهم من داخل هذا الفضاء إصدار البيانات والقرارات، فضلاً عن إمكانية عقد مؤتمرات صحافية مطابقة للواقع.
في مكان آخر، تجتمع "الخلية الحمراء" لتدير وتوجّه عملية الانقلاب، وتساهم في نشر أخبار على شبكات خاصة، إضافةً إلى اتخاذ قرارات بناء على الموقف وتطوراته. أما في غرفة "الخلية البيضاء"، فيجلس منظمو اللعبة الذين يتحكمون بسير الأحداث ويحقنون اللعبة بأحداث محددة مع كل تطور جديد، ويصدرون نشرة تفرض على كلا الفريقين التصرف وفقها، ويبدأ عدّاد الوقت مع وصول المعلومة الأولى: "الحشود بازدياد، وهم يتحركون باتجاه العاصمة". وخلال هذه الساعات الست، إما تتداعى أركان النظام السياسي، وتدخل البلاد في حرب أهلية، أو تضمن إدارة الرئيس هوثام الانتقال الآمن للسلطة.
صوّر صناع الفيلم التحضيرات للعبة، ومن ثم صوّروا الساعات الست كاملة، إضافةً إلى لقاءات جانبية مع الشخصيات المشاركة والقائمين على التجربة، وجرى تكثيف كل هذا في ساعة ونصف، ما يجعل التجربة منقوصة ويضع الفيلم في محاولة لإيهام المشاهد بأنه يرى كيف تتحرك الإدارة الأميركية المتخيلة في مواجهة الأشرار المفترضين، ويتاح للمشاهد أن يصل إلى أعلى حدود التماهي في هذه اللعبة عندما يتمكن من سماع حوارات من خلف الأبواب المغلقة بين وزير الدفاع ورئيس البلاد أو غيرهما من الشخصيات المؤثرة.
ربما يشعر المشاهد الأميركي بأن مستقبله مرهون بالقرارات التي سيتخذها هؤلاء، أو يهيمن عليه الشعور بالعجز لكونه فرداً من عامة الشعب غير قادر على تحديد ما يجب فعله في ظرف كهذا. هنا، يقدّم الفيلم إجابة سطحية: "لا يجب أن يلجأ الرئيس إلى قانون التمرد"، ما يسمح ببناء قالب تشويقي يترك المشاهد في حالة ترقب وانتظار للقرارات الحاسمة. ومع مرور الساعات الست المفترضة، تنجح الخلية الزرقاء بإنهاء التمرد من دون اللجوء لتفعيل القانون. ويخرج الرئيس هوثام منتصراً في مؤتمرٍ صحافي، ويلقي خطاباً عاطفياً مرتجلاً يحيلنا إلى النهايات الكلاسيكية للأفلام الهوليوودية، حين ينتصر البطل ويصفق الجميع وربما تسيل دموع البعض فرحاً. أما إذا تأملنا في الفيلم، فيكاد يكون حل هذه الأزمة، وتلاشي الحشود من أمام الكابيتول مسألة غامضة لا يستطيع أحد أن يعلم كيف حُلّت.
حقق الفيلم 15.3 ألف دولار في موقع عرض واحد في نيويورك، ووصلت إيراداته إلى 111 ألف دولار أميركي، واحتضن مهرجان صندانس 2024 العرض الأول للعمل، لكنه مع ذلك لم يلق رواجاً كبيراً ولم يحقق نجاحاً تجارياً، وذلك على الرغم من بنيته المضبوطة وصنعته المتقنة. ومع أن War Game انطلق من ذريعة أنه "استجابة لحالة الانقسام غير المسبوقة التي يشهدها المجتمع الأميركي"، إلا أنه يظل غارقاً في التسييس، إذ ينطلق من مقولة صحيحة وهي رفض إعاقة انتقال السلطة بالقوة، ولكن في الوقت نفسه لا يبحث في الدافع المحرك للحشود المفترضة، بل يصورها كما لو أنها كتلة واحدة من جمهور قطيعي مغرّر به.