31 أكتوبر 2024
قناعات سورية مستترة
هناك قناعاتٌ لها حضور مهم في المجتمع السوري، تتحكم بخيارات قطاعات كبيرة من الناس ومواقفها، من مختلف المستويات التعليمية، من دون أن تظهر صراحة. لا يجرؤ أصحاب هذه القناعات على الجهر بها، يداورون في الكلام، يرمون على قناعاتهم العميقة هذه جملاً مموهة تشوش على ما دونها، أو يقولونها همساً، وغالباً ما يكون التعبير الشفهي عن هذه القناعات مسبوقاً بكلمة (بصراحة)، الكلمة التي تشكل بوابة عبور هذه المستترات. من العسير جداً أن تجد هذه القناعات مكتوبةً أو معلنةً صراحة. فهي قناعاتٌ يخجل منها حاملها، ولكنها صاحبة الوزن الأساسي في تحديد خياراته مع ذلك. إنها المستترات التي تجعل كل ظاهر غيرها زائفاً.
إحدى هذه القناعات تتعلق بشكل الحكم في البلد، ويمكن التعبير عنها بعدة أقوال: إن شعوبنا لا تحكم إلا بالقوة والبوط، أو "بالصرماية". الديموقراطية لا تليق بنا. انظر ما جرى في العراق وليبيا واليمن ما أن زال المستبد. أمثال بشار الأسد ومعمر القذافي وصدام حسين.. كثيرون علينا. كما تكونون يولّى عليكم. نحن شعب طائفي متخلف بطبعه. فكرة المواطنة لا تنبت في أرضنا، وإن نبتت فهي بلا جذور، وسرعان ما تقتلع في الاختبار الأول. إذا ثار شعبنا على مستبد، فلكي يضع مستبداً آخر مكانه. يثور شعبنا على المستبد القومي، فيميل إلى المستبد الإسلامي أو الماركسي.
القناعة المستترة الثانية تتعلق بالصراع مع إسرائيل: لا قدرة لنا على مواجهة إسرائيل. أميركا والعالم كله معها. هل تقارن وقوف أميركا مع إسرائيل بوقوف السوفييت معنا؟ لولا الجسر
الجوي الأميركي معها في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، لكنا هزمناها. الحكمة تقضي بأن نتلافى شر إسرائيل. والحكمة تقضي بألا ترد القيادة على الاعتداءات الإسرائيلية. صمت الجبهة في الجولان أكثر من أربعين عاماً إنجاز لسورية وليس لإسرائيل. الكلام عن تحرير الجولان أو استعادتها فارغ، موجه للإعلام، وللشعب الغبي فقط.
لهذه القناعات المستترة، شأنها شأن أي قناعة، ما تستند إليه من وقائع وحجج، غير أن القيمة السلبية لهذه القناعات لا تتحدّد في معايرتها بين الصحيح والخاطئ، بل فيما يترتب عليها من نتائج، وفي موقعها من تاريخ المجتمع وتطوره. تكمن مشكلة هذه القناعات في أنها تتجنب رؤية الإمكانات والوقائع المغايرة، المحلية والخارجية. لا تريد أن ترى روافع لقناعة أخرى، ذات بعد ثوري، ذلك لأنها استسلامية في الصميم. مشكلتها تكمن في انعدام التوتر بينها وبين الواقع. تفضي سيادة مثل هذه القناعات إلى ضمور المجتمع، وتآكله الذاتي، طريق شديدة الانحدار نحو الضياع. سيادتها تعني موت التطلع لدى الشعب، فيكفيه من المعتدي الداخلي أن يسمح له بالحياة، ومن المعتدي الخارجي أن يكتفي بما احتلّ من أرضه. طبيعي أن يولّى على أصحاب هذه القناعات المستترة معتد داخلي، يحمل هذه القناعات إياها، يستعبد شعبه بالقوة والبوط (فهذا هو الشكل الوحيد المجدي للحكم)، ويستكين للعدو الخارجي (لا قدرة لنا على مواجهته). ويتحول البلد إلى فريسةٍ سهلة، أجاد المعتدي الداخلي إعدادها لمعتد خارجي ذي مطامع.
لا يوجد في خط تفكير أصحاب هذه القناعات السؤال عن مخرج من العبودية، أو من الاحتلال. ذلك لأن هذا الخط لا ينطوي على أي طاقةٍ نقديةٍ تتيح لحامله أن يكتشف علاقة تعاضد بين الاحتلال الخارجي والاستعباد الداخلي، أو بين "غباء" الشعب وإفقاره، أو بين سلب الكرامة الشخصية وسلب الكرامة الوطنية. نحن، مع هذا الخط من التفكير، أمام انهزاميةٍ نفسيةٍ عميقة، يضحي أصحابها بحقوقهم السياسية والوطنية معاً. يكرهون أنفسهم إلى حد نكران حقوقهم، ويستضعفون ذواتهم إلى حد السكوت عن أرضهم المحتلة. على هذه القاعدة النفسية المهزومة، تقوم دعامة مهمة من دعامات النظام المستبد.
هناك نمط آخر من القناعات المستترة، ظهر مع اندلاع الثورة السورية وتطورها. لم تكن
مظاهرات السوريين، وقوة تحديهم وأحقية مطالبهم، في نظر أصحاب القناعات المستترة من أنصار نظام الأسد، ولا سيما العلويون منهم، سوى حراك طائفي سني، يريد الانتقام من حكم علوي، وإعادة العلويين إلى الجبال. "دع عنك كل ما يقال، هذه هي الحقيقة". "هذا حقد طائفي وليس طاقة ثورية". "بالطبع، لن يقولوا إننا طائفيون، سيقولون نريد الحرية والكرامة". "المشاركون من باقي الطوائف مغشوشون، ولا يعلمون أين يضعهم الله". مع التطورات التالية، سعت هذه القناعة إلى تأصيل ذاتها "نبوءة"، باقتطاع الدلائل المناسبة لها من سياق الحدث العام.
التطورات التالية نفسها غذّت، على الضفة المواجهة للنظام، قناعة مستترة مضادة، فنظام الأسد، حسب هذه القناعة، ليس تكويناً سياسياً اقتصادياً عسكرياً وأمنياً مكرّساً منذ عقود في خدمة مصالح محلية، عابرة للطوائف ومصالح خارجية عابرة للأمم والأديان؛ إنه ليس سوى رأس حربة للطائفة العلوية التي تحكم البلد، وتتمتع بامتيازات، وإن السنّة هم المستهدفون، وإن هذا الخراب اليوم كان أمراً تبيّته هذه الطائفة منذ زمن، وإن المعارضين من بقية الطوائف لا يوثق بهم، ولاسيما العلويون ..إلخ.
لا شيء عصي على أصحاب القناعات المستترة، يجترحون لكل شيء تفسيراً كلبياً، يقتل أي قيمة أخلاقية، ويرى في كل سلوك بشري دافعاً معيباً. تنبع خطورة هذه القناعات من أنه لا يمكن مناقشتها، لأنها غير معروضة للنقاش أصلاً، فهي لا تطرح للعلن، إلا في دائرةٍ ضيقةٍ، هي دائرة المشاركين بالقناعة نفسها غالباً، وهي قناعةٌ غير صدامية من الناحية الفكرية أو السياسية، تتسلل إلى الوعي بطرق ملتويةٍ، وعبر بوابات نفسية أكثر منها منطقية، ثم تستقر بصمت، في خلفية ذهن صاحبها وتتحكم فيه.
تشكل هذه القناعات عاملاً خفياً في مسار الأحداث، لأنها لا تظهر على السطح، أو لا تظهر بحجمها الحقيقي، ما يعطي لتطورات الحدث جانباً غير مفهوم. يحمل المقاتل العلوي، الموجود في أي تشكيل عسكري لصالح النظام، طبقة معلنة من الوعي، تقول إنه يقاتل دفاعاً عن الوطن والدولة، وطبقة مستترة تقول إنه يقاتل دفاعاً عن الطائفة المهدّدة. ثمة غلاف وطني لوعي طائفي. هذا التركيب الغريب بات ممكناً كونه يقاتل في صف سلطة تستولي على الدولة التي تمثل الوطن.
وعلى غرار هذا، بات المقاتل المعارض يحمل طبقة معلنة من الوعي تتحدث عن الحرية والكرامة والاستبداد.. إلخ، وطبقة مستترة تتحدث عن "نظام علوي" وعن حقوق السنة ..إلخ. وفي الحالتين، تعود صلابة المقاتل وإقدامه وتضحيته إلى الطبقة المستترة، وإليها تعود أيضاً شراسته وتجاوزه المعايير الأخلاقية.
إحدى هذه القناعات تتعلق بشكل الحكم في البلد، ويمكن التعبير عنها بعدة أقوال: إن شعوبنا لا تحكم إلا بالقوة والبوط، أو "بالصرماية". الديموقراطية لا تليق بنا. انظر ما جرى في العراق وليبيا واليمن ما أن زال المستبد. أمثال بشار الأسد ومعمر القذافي وصدام حسين.. كثيرون علينا. كما تكونون يولّى عليكم. نحن شعب طائفي متخلف بطبعه. فكرة المواطنة لا تنبت في أرضنا، وإن نبتت فهي بلا جذور، وسرعان ما تقتلع في الاختبار الأول. إذا ثار شعبنا على مستبد، فلكي يضع مستبداً آخر مكانه. يثور شعبنا على المستبد القومي، فيميل إلى المستبد الإسلامي أو الماركسي.
القناعة المستترة الثانية تتعلق بالصراع مع إسرائيل: لا قدرة لنا على مواجهة إسرائيل. أميركا والعالم كله معها. هل تقارن وقوف أميركا مع إسرائيل بوقوف السوفييت معنا؟ لولا الجسر
لهذه القناعات المستترة، شأنها شأن أي قناعة، ما تستند إليه من وقائع وحجج، غير أن القيمة السلبية لهذه القناعات لا تتحدّد في معايرتها بين الصحيح والخاطئ، بل فيما يترتب عليها من نتائج، وفي موقعها من تاريخ المجتمع وتطوره. تكمن مشكلة هذه القناعات في أنها تتجنب رؤية الإمكانات والوقائع المغايرة، المحلية والخارجية. لا تريد أن ترى روافع لقناعة أخرى، ذات بعد ثوري، ذلك لأنها استسلامية في الصميم. مشكلتها تكمن في انعدام التوتر بينها وبين الواقع. تفضي سيادة مثل هذه القناعات إلى ضمور المجتمع، وتآكله الذاتي، طريق شديدة الانحدار نحو الضياع. سيادتها تعني موت التطلع لدى الشعب، فيكفيه من المعتدي الداخلي أن يسمح له بالحياة، ومن المعتدي الخارجي أن يكتفي بما احتلّ من أرضه. طبيعي أن يولّى على أصحاب هذه القناعات المستترة معتد داخلي، يحمل هذه القناعات إياها، يستعبد شعبه بالقوة والبوط (فهذا هو الشكل الوحيد المجدي للحكم)، ويستكين للعدو الخارجي (لا قدرة لنا على مواجهته). ويتحول البلد إلى فريسةٍ سهلة، أجاد المعتدي الداخلي إعدادها لمعتد خارجي ذي مطامع.
لا يوجد في خط تفكير أصحاب هذه القناعات السؤال عن مخرج من العبودية، أو من الاحتلال. ذلك لأن هذا الخط لا ينطوي على أي طاقةٍ نقديةٍ تتيح لحامله أن يكتشف علاقة تعاضد بين الاحتلال الخارجي والاستعباد الداخلي، أو بين "غباء" الشعب وإفقاره، أو بين سلب الكرامة الشخصية وسلب الكرامة الوطنية. نحن، مع هذا الخط من التفكير، أمام انهزاميةٍ نفسيةٍ عميقة، يضحي أصحابها بحقوقهم السياسية والوطنية معاً. يكرهون أنفسهم إلى حد نكران حقوقهم، ويستضعفون ذواتهم إلى حد السكوت عن أرضهم المحتلة. على هذه القاعدة النفسية المهزومة، تقوم دعامة مهمة من دعامات النظام المستبد.
هناك نمط آخر من القناعات المستترة، ظهر مع اندلاع الثورة السورية وتطورها. لم تكن
التطورات التالية نفسها غذّت، على الضفة المواجهة للنظام، قناعة مستترة مضادة، فنظام الأسد، حسب هذه القناعة، ليس تكويناً سياسياً اقتصادياً عسكرياً وأمنياً مكرّساً منذ عقود في خدمة مصالح محلية، عابرة للطوائف ومصالح خارجية عابرة للأمم والأديان؛ إنه ليس سوى رأس حربة للطائفة العلوية التي تحكم البلد، وتتمتع بامتيازات، وإن السنّة هم المستهدفون، وإن هذا الخراب اليوم كان أمراً تبيّته هذه الطائفة منذ زمن، وإن المعارضين من بقية الطوائف لا يوثق بهم، ولاسيما العلويون ..إلخ.
لا شيء عصي على أصحاب القناعات المستترة، يجترحون لكل شيء تفسيراً كلبياً، يقتل أي قيمة أخلاقية، ويرى في كل سلوك بشري دافعاً معيباً. تنبع خطورة هذه القناعات من أنه لا يمكن مناقشتها، لأنها غير معروضة للنقاش أصلاً، فهي لا تطرح للعلن، إلا في دائرةٍ ضيقةٍ، هي دائرة المشاركين بالقناعة نفسها غالباً، وهي قناعةٌ غير صدامية من الناحية الفكرية أو السياسية، تتسلل إلى الوعي بطرق ملتويةٍ، وعبر بوابات نفسية أكثر منها منطقية، ثم تستقر بصمت، في خلفية ذهن صاحبها وتتحكم فيه.
تشكل هذه القناعات عاملاً خفياً في مسار الأحداث، لأنها لا تظهر على السطح، أو لا تظهر بحجمها الحقيقي، ما يعطي لتطورات الحدث جانباً غير مفهوم. يحمل المقاتل العلوي، الموجود في أي تشكيل عسكري لصالح النظام، طبقة معلنة من الوعي، تقول إنه يقاتل دفاعاً عن الوطن والدولة، وطبقة مستترة تقول إنه يقاتل دفاعاً عن الطائفة المهدّدة. ثمة غلاف وطني لوعي طائفي. هذا التركيب الغريب بات ممكناً كونه يقاتل في صف سلطة تستولي على الدولة التي تمثل الوطن.
وعلى غرار هذا، بات المقاتل المعارض يحمل طبقة معلنة من الوعي تتحدث عن الحرية والكرامة والاستبداد.. إلخ، وطبقة مستترة تتحدث عن "نظام علوي" وعن حقوق السنة ..إلخ. وفي الحالتين، تعود صلابة المقاتل وإقدامه وتضحيته إلى الطبقة المستترة، وإليها تعود أيضاً شراسته وتجاوزه المعايير الأخلاقية.