بدت جائزة نوبل للأدب هذا العام أقل صخباً وإثارة للجدل مقارنة بالعام الماضي بعد الإعلان عن فوز بوب ديلان، إذ ما إن هدأ جدل منحها إلى ديلان، كاتب الأغاني والموسيقي الأميركي، حتى أثار ديلان الجدل مرة أخرى برفضه استلام الجائزة العريقة في أكثر من مناسبة، قبل أن يوافق على استلامها بعد أربعة أشهر من موعدها الرسمي المحدّد!
إلا أن منح "الأكاديمية السويدية" جائزة نوبل للكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو إيشيغورو (ناكازاكي، 1954) الخميس الفائت، لا يخفّف من منسوب المفاجأة أبداً، خصوصاً مع اسم لا يكاد يذكره الإعلام في سباق الجائزة، مقارنة بأسماء تبدو ثابتة في كل عام، كالروائي الياباني هاروكي موراكامي، والكيني نغوجي وا ثيونغو، والسوري أدونيس، وهو الأمر الذي أصبح معتاداً بل ومتوقّعاً من جانب الأكاديمية.
لكن كازو إيشيغورو الفائز بجائزة "البوكر" عام 1986، يظهر معروفاً بدرجة ما للقارئ العربي من خلال أربعة أعمال مترجمة هي "فنان العالم العائم" و"بقايا النهار" و"عندما كنّا يتامى" و"من لا عزاء لهم" من أصل أعمال سبعة، هي حصيلته من الروايات التي امتازت بأنها "تكشف الهاوية التي تعزز شعور الإنسان الوهمي في علاقته مع العالم في أعمال تمتلك قوة عاطفية عظيمة" بحسب تعبير أكاديمية نوبل.
تنطلق أعمال كازو إيشيغورو الذي ترجمت أعماله إلى قرابة أربعين لغة، من انهماكه في العمل على تسليط الضوء على أسئلة النسيان الفردي والذاكرة الجماعية؛ انهماك يستدعي العودة بالزمن مرّة إلى حيوات وأزمنة سابقة، وما يرافق ذلك كله من مشاعر ولحظات إنسانية فاصلة، ومَرّة بالانطلاق بالزمن إلى الأمام، وتحديداً في اختراع شكل بشري قادم، ثيمته الأساس التطوّر العلمي الذي يرافق الفرضيات البديلة: لو لم يحدث كذا، كانت البشرية ستكون كذا!
لكن صاحب "بقايا النهار" (1989) ينفي هوسه بتقديم شكل بشري جديد ومتخيّل بالقول: "إنني أكتب ما يمكن أن أسميه روايات "التأريخ البديل" مثل: كيف كانت صورة أميركا والعالم ستبدو لو أنّ كينيدي لم يلاقِ حتفه اغتيالاً؟ إنّ روايتي تتحدّث ببساطة عن الشكل الذي كانت ستبدو عليه بريطانيا لو أنّ أمراً علميّاً أو اثنين حصلا بطريقة مختلفةٍ عمّا حصلا به فعلاً".
ويضيف: "لم أجد نفسي أبداً واقعاً تحت ضغط الإغراء بكتابة حكايات مستقبليّة، ولستُ أمتلك ما يكفي من الطاقة في التفكير بالشكل الذي ستكون عليه السيّارات أو مقابض الأكواب في حضارتنا المستقبليّة".
وبالتركيز على بعض الموضوعات الثابتة في معظم أعماله، تظهر قضية الانتحار موضوعة أساسية مستنبتة في ذروة أحداث الروايات، وخصوصاً في "منظر شاحب للتلال" و"فنان العالم العائم" التي يعلّق عليها كاتبها بالقول: "كان على هؤلاء أن ينتحروا ساعة دقّت طبول الحرب، فهم مسؤولون عن إلقاء اليابان في هوّة الجحيم"، الأمر الذي يظهر انتحار هؤلاء في أعماله وكأنه استعادة حزينة لمآلات اليابان وهزيمتها عام 1945، في محمول عاطفي كثيف للّوم والتحسّر على مآلات بلده الأصلي، بالإضافة إلى إدانة فعل انتحار الطيارين اليابانيين، أو ما أطلق عليه حينها: "طيارو الكاميكاز" الذين ألقوا بأنفسهم وطائراتهم على سفن الحلفاء في الحرب، متخيّلاً على ما يبدو مصير اليابان فيما لو أنها لم تدخل الحرب وبالتالي خسارتها الفادحة.
تبدو روايته الأولى "مشهد شاحب للتلال" (1982) تجسيداً لحياته الشخصية وبالتحديد لحالة القطيعة التي عاشها الرجل عن بلاده اليابان، خصوصاً مدينته ناكازاكي بعد الهزيمة اليابانية في الحرب العالمية الثانية، والكارثة النووية التي حلّت في المدينة، إذ إن قصة الرواية تدور حول عائلة يابانية تهاجر إلى لندن، لتختبر بعدها حدث انتحار الابنة، ولعلّ هذا الحدث يظهر مستنبتاً في الرواية، ليؤدي دوراً مجازياً للتعبير عن مآلات القطيعة عن الوطن، في رواية تميّزت بمحاولتها الكشف عن هواجس المغتربين.
ولعل فيما قالته "الأكاديمية السويدية" حول أسلوبه: إنه يمزج بين أسلوب الكاتب التشيكي فرانز كافكا، والروائية الإنكليزية جين أوستن والقليل من مارسيل بروست؛ ما يشكل مفتاحاً مهمّاً للإطلال من زاوية مختلفة نحو كتابة يُجمِع نقّاد كثيرون حولها أنها جديدة ولا سيما في تقنياتها الروائية.
تسلّط رواية "من لا عزاء لهم" (1995) الضوء على حالات تدفّق تيّار الوعي المتسارع، في حين تبدو مشاهدها مربكة إلى حد الالتباس، بالإضافة إلى بطء سير أحداثها، نظراً لانشغال صاحبها بالتركيز على حالات تطوّر وعي شخوصها، في مقابل أحداث بالكاد تمضي إلى الأمام، وهي رواية يقول فيها إنه يحاول إعادة كتابة حياة عازف البيانو، الذي يصل إلى قرية صغيرة للقيام بعمل مهم ليلة الخميس ثم تختلط الأحداث بين الواقع والحلم.
في حين تظهر رواية "حين كنّا يتامى" (2000)، وكأنها رواية بوليسية، لتتحول بعد ذلك إلى ما يشبه رواية عائلية ثم سرعان ما تتحول إلى رواية تتحدث عن الحرب. هذه واحدة من تقنيات الكاتب الذي يضع نفسه في موضع محرّك دمى الرواية، إنها في الحقيقة لا تريد أن تصل إلى أي مكان من تلك الأمكنة، حتى يكتشف القارئ في نهاية الأمر القدرة المدهشة التي يمتلكها الكاتب في فهم العالم، إنها "نظرة فنان إلى العالم عندما يكون كل شيء مشوّهاً. العالم كله مجسد في الكتاب الذي يبدأ من نقطة ثم ينحني في نقطة أخرى" يقول إيشيغورو.
في روايته الأخيرة "العملاق المدفون" (2015)، والتي جاءت بعد توقف دام عشرَ سنوات، يسلط إيشيغورو الضوء على حالات النسيان الوطني والذاكرة الفردية، في رواية تتمرّد في أساسها على روايات الخيال العلمي، إذ لا يكتفي هنا بالعودة في التاريخ إلى حقبات زمنية تراكم غبار النسيان حولها، بل يعمد إلى زج كائنات غرائبية إلى المشهد الروائي، تلعب الوحوش في هذه الرواية ككوابح نفسية لبطلي القصة في رحلة بحثهما عن الابن المفقود.
________________________________
في منطقتنا العربية وصل أدب كازو إيشيغورو من خلال السينما قبل أن تترجم رواياته، ولا سيما "بقايا النهار" المأخوذ عن روايته التي نشرها عام 1982، وحوّلت عام 1993 إلى فيلم سينمائي من بطولة أنتوني هوبكنز. بالإضافة إلى سيناريو فيلم "الموسيقى الأكثر حزناً في العالم" الذي عُرض عام 2003 من إخراج غاي ميدين، ثم "لا تدعني أذهب أبداً" الذي أنتج سنة 2010 وأخرجه مارك رومانيك ولعبت بطولته كيرا نايتلي.