كلمات على سبيل المقاومة
من الصعب جداً على أي كاتب صحفي عربي الابتعاد عما يحدث في غزة، للكتابة في موضوع آخر في هذه الأيام. فغزة التي تتعرض لحرب صهيونية شاملة، منذ أكثر من أسبوعين، حاضرة في نية من نيات الكتابة. حاضرة بصمودها وبشجاعتها وبقدرتها على التعبير عن نفسها، ببلاغة المقاومة، وإرادة البقاء على قيد الحرية والإنسانية، على الرغم من كل هذه الدماء والدموع التي تسيل، والأشلاء التي تتناثر والعوائل الكاملة التي تمحى من سجل الحياة. فكيف نتجاهل هذا كله؟
صحيح أننا نكرر أنفسنا في كل مرة نكتب فيها عن فلسطين، وغزة، الآن، قلب فلسطين، وما يوحي به، ويحيل إليه هذا الاسم من دلالات في الوجدان الانساني ككل، لكننا، للأسف، لا نملك، راهناً، غير هذا الخيار المكرر في كل مرة تتعرض فيها مدينة من المدن الفلسطينية لعدوان كهذا العدوان.. وكل التاريخ المعاصر لمدن فلسطين عدوان.
لكن خيار الكتابة ليس سيئاً، حتى وإن تكرر عشرات المرات في الموضوع نفسه، ليس لأن معظمنا لا يملك غيره وحسب، بل، أيضاً، لأن الكلمة تبقى، من بين وسائل التعبير الأخرى، الأكثر قدرة على التعبير عن غضبنا، وعن حزننا، وعن تعاطفنا، وعن تفاؤلنا، وعن مشاعر أخرى مختلطة علينا، ونحن نرقب ما يجري أمامنا، ليل نهار، على الشاشات التلفزيونية والأجهزة الحاسوبية الذكية.
لم أتصور يوماً أن مثل هذه المقالات التي نكتبها هدفها إعلان موقفنا من القضية الفلسطينية، ومن معطياتها الأخرى في النضال بكل أشكاله. فقد كانت دائماً قضية فلسطين واضحة جداً بالنسبة لكل عربي، مهما اختلفنا بشأن رموزها وطبيعة السياسات المحيطة بها، فكل هذه من الاختلافات المفهومة التي تبقى -صغرت أم كبرت- محصورةً في إطار صورة فلسطين التي نحملها جميعاً في قلوبنا. لكن، يبدو أن شيئاً ما حدث ليغير الأمر، ويجعل من وضوح القضية الفلسطينية في الوجدان العربي الجمعي الشامل مسألة فيها نظر!
أتذكر، الآن، ما حدث في رام الله العام 2002 في أثناء الحرب التي أسمتها إسرائيل حرب الجدار الواقي، وكانت أول حربٍ من نوعها يتابعها المشاهد العربي على الهواء مباشرة، لحظة بلحظة من الشاشات الفضائية التي نقلت الأحداث، ورددت بين فواصلها كلمة ياسر عرفات الشهيرة في أثنائها؛ "يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً، وأنا أقول، شهيداً شهيداً شهيداً".
يومها، لم تكن مواقع التواصل الاجتماعي قد ظهرت، وبالتالي، لم يكن أمام المشاهد العربي سوى ممارسة دوره المحتوم، أي أن يبقى مجرد مشاهد للحدث البعيد القريب من خلف الشاشات، مع استثناءاتٍ قليلةٍ في عاصمةٍ، أو أكثر من عواصم العرب، سمحت له بالخروج والتظاهر ساعة أو ساعتين، وليوم أو يومين. وانتهينا.
انتهت تلك الحرب التي كانت تدور في مقاطعة الرئاسة في رام الله، بطريقة كاريكاتورية، حاصرت فيها إسرائيل المسؤولين الفلسطينيين، ثم اكتفت بمطاردتهم من غرفة إلى غرفة، في مبنى المقاطعة، قبل أن ينجح الفلسطينيون في محاصرة الحصار، كعادتهم التي أصبحوا خبراء فيها، عندما تحول مكتب الرئيس المسوّر بأفواه المدافع قبلة لشخصيات عالمية كثيرة، أتت لتكون جزءاً من مشهد المقاومة المستمر شهوراً.
انتهى الحصار الذي تابعه العالم كله يومها في بثٍّ مباشر، لتجري مياه كثيرة، منذ ذلك الوقت، حتى حرب غزة الحالية، أهمها أن المشاهد العربي، المغلوب على أمره تسمّر خلف الشاشات في البيوت، عدا قليلٍ وجدوا في عطايا التكنولوجيا الجديدة متنفساً ليشاركوا في مهمة المقاومة، إن سنحت الفرصة. وها حرب غزة، بشكلها الإنساني الشمولي العام، تتيح لهم أن يجربوا قدراتهم الجديدة. وقد فعلوا.
إسرائيل تتوغل جبروتاً قاتلاً في غزة، والفلسطينيون فيها يقاومون بكل إيمانهم بفلسطين، ومواقع التواصل الاجتماعي تشتعل بما يشبه المقاومة الإلكترونية التي وجد العرب أنفسهم، كأفراد، من خلالها، قادرين على المشاركة بهذا الشكل الفاعل على المستوى الفردي، بعيداً عن وصايا وسائل الإعلام التقليدية، بحساباتها الكثيرة.
ومن هنا، برز الدور الكبير للكلمة، بمختلف أشكالها، في المقاومة، بمختلف أشكالها أيضا. طوفان من الكلمات التي على الرغم من أنها تبدو مكررة، إلا أنها تكتب هذه المرة بلا وسيط ولا رقيب.. تكتب لتقاوم أحياناً، ولتنكشف، وتكشف ما وراءها من الخيانات المخبوءة، أيضاً، أحياناً أخرى. المهم أنها تكتب بصدق وعفوية ومباشرة من الضمير العربي إلى العالم. كلمات تبحث عمن يسمع حول قضيةٍ تبحث عن ضمير.