27 سبتمبر 2019
كل هذا الاحتفال بالموت
وضع أحدهم على صفحته في "فيسبوك" صورة ورقة نعي لامرأة شهيدة زوجها شهيد وأبناؤها الثلاثة شهداء في سورية، وكان تعليقه: كيف يموت وطن هؤلاء أبناؤه. أعدت قراءة العبارة. شعرت، ببساطةٍ، وأنا أقرأ أنني أمشي بالمقلوب، أي على رأسي، وأن المطلوب مني أن أنظر إلى الأسود، وأقول رغماً عني إنه أبيض. لا أعرف أي آلية في التفكير تجعل شخصاً مثقفاً، ويحمل شهادة عليا، وفاعلاً اجتماعياً، يعتبر أن الوطن يعيش في موت أبنائه، فالأم الثكلى مات أولادها الثلاثة في الجيش السوري، وحازوا على لقب الشهيد البطل، وربما قبلهم أو بعدهم استشهد زوجها أيضاً، ثم ماتت الأم التي ورثت الشهادة ربما من أولادها وزوجها، كيف يمكن لحياةٍ أن تُهزم أكثر من هزيمةٍ كهذه؟ وكيف يُمكن لموتٍ أن ينتصر أكثر من انتصارٍ كهذا؟ وكيف يُمكن للعقل أن يمارس فن الخداع على نفسه، فيحول موت أسرةٍ إلى حياة وطن، كما لو أن الوطن كائن (أو مفهوم) مستقل عن أبنائه؟ وذكرتني صفحة ورقة النعي هذه بالصفحات الكاملة في الصحف السورية الرسمية، خصوصاً "الثورة" و"تشرين" اللتين كانتا، كل بضعة أيام، تفردان صفحة كاملة مُختنقة بصور الشهداء الأبطال في الجيش السوري (أحياناً أكثر من أربعين صورة في الصفحة) ويُكتب بالأحمر العريض على الصفحة الكابوسية الكارثية: كوكبة من أعراس الشهداء..
يا سلام على هذا التعبير، يُمكنك أن تتخيل مجرّة سماويةً لمّاعة في سماء الليل البنفسجية الساحرة بكلمة "كوكبة"، أما أن تتأمل أكثر من أربعين صورة لشباب ماتوا رغماً عنهم، ومن دون إرادتهم، وتسميهم كوكبة، وتقرأ زغردة أهلهم لموتهم واعتزازهم بهذا الموت فداء للوطن، فذلك ما ليس في وسعك أن تفعله. يشطح بعضهم إلى تمني الموت أو الشهادة لبقية أبنائه، وهذا أشبه بقصة الإمبراطور العاري الذي كان يسير بموكبه الفخم عارياً، لكن الذعر والخوف وحكم الاستبداد جعل الناس يتغزّلون بملابسه، ما عدا طفلا صغيرا تجرأ وجهر بالحقيقة: لكنه عارٍ.
منطق التفكير في الإعلام السوري، ولدى عديدين يتبنون هذا الرأي، ويُمجدون الموت والشهادة، ويعتبرونه غاية الحياة وقيمتها هو السائد. وهو ببساطة معاد لأبسط قواعد التفكير السليم الفطري والطبيعي لدى الإنسان، الطبيعي وغير المؤدلج، وهو حب الحياة وتقديسها، إذ غاية الحياة هي الحياة لا الموت، ولا يُمكن للموت، ولا بأي شكل، أن يكون منتصراً. يموت الإنسان في سبيل حريته والدفاع عن آرائه وحرية تعبيره، فلا معنى لحياةٍ من دون حرية، وهذا حال لا يمتُ بصلة إلى موت مئات، بل آلاف، الشبان السوريين الذين يُزجون في معركةٍ لم يختاروها، والذين لم يستطيعوا الفرار، كما فعل مئات الآلاف من الشبان السوريين، الهاربين من الموت المُحتم.
ثقافة الإعلاء من قيمة الموت وتقديسه وإعتباره نصراً وعرساً وغاية للحياة هي أكبر تزوير لحقيقة الحياة، ورغبة كل إنسان أن يعيش ويُحب ويستمتع بأعظم متعةٍ هي عيش الحياة، لكن الإعلام السوري، ومن تأثروا وتبنوا أفكاره، يعتبرون الموت انتصاراً، بل واجب كل شاب، فكم مرة شهدنا سيارات ضخمة تقف أمام مقاهي رصيفٍ، ويهبط منها عناصر من الأمن أو الجيش، ليجمعوا أكبر قدر من الشبان المساكين، وهم في مقاهي الرصيف، ليزجّوهم في معركةٍ لا يريدونها. كم من وابلٍ من الرصاص الاحتفالي، تشهده سماء سورية عشرات المرات يومياً ابتهاجاً بتشييع شاب سوري، مات وتحول إلى شهيد بطل. كم من زخّ من الرصاص الاحتفالي تشهده سورية كل يوم، وهي تحتفل بعرس الشهادة الذي هو عرس الموت. وربما لو حسبنا الكلفة المادية للرصاص الاحتفالي، والذي يُستعمل في مناسباتٍ سياسيةٍ عديدةٍ، لكانت كافيةً لإنشاء محطة توليد كهرباء، تضيء سورية كلها، بدل ساعات التقنين الكهربائي الطويلة، والمبالغ الطائلة التي ابتلى بها السوريون لاضطرارهم إلى شراء مولدات كهرباء، أو لدات (شرائط كهربائية رفيعة تؤذي العيون).
كل شي يمكن تزويره ما عدا الحق، فالنفس البشرية مفطورةٌ عليه، ولا يمكن، ولا تحت أي ذريعة فكرية، أن نعتبر الشهيدة زوجة الشهيد وأم الشهداء الثلاثة علامة على حياة وطن. بل هي فضيحة مجلجلة لفشل عقل ومنطق معادٍ للحياة، لأن غاية الحياة هي الحياة الحرّة الكريمة الآمنة. ويستحيل أن يُبنى وطن على جثث أبنائه الذين تحوّلوا إلى أوراق نعي. ببساطةٍ، يطبل الإعلام السوري ويزمّر لثقافة الموت، ويجعل من الموت غاية الحياة.
يا سلام على هذا التعبير، يُمكنك أن تتخيل مجرّة سماويةً لمّاعة في سماء الليل البنفسجية الساحرة بكلمة "كوكبة"، أما أن تتأمل أكثر من أربعين صورة لشباب ماتوا رغماً عنهم، ومن دون إرادتهم، وتسميهم كوكبة، وتقرأ زغردة أهلهم لموتهم واعتزازهم بهذا الموت فداء للوطن، فذلك ما ليس في وسعك أن تفعله. يشطح بعضهم إلى تمني الموت أو الشهادة لبقية أبنائه، وهذا أشبه بقصة الإمبراطور العاري الذي كان يسير بموكبه الفخم عارياً، لكن الذعر والخوف وحكم الاستبداد جعل الناس يتغزّلون بملابسه، ما عدا طفلا صغيرا تجرأ وجهر بالحقيقة: لكنه عارٍ.
منطق التفكير في الإعلام السوري، ولدى عديدين يتبنون هذا الرأي، ويُمجدون الموت والشهادة، ويعتبرونه غاية الحياة وقيمتها هو السائد. وهو ببساطة معاد لأبسط قواعد التفكير السليم الفطري والطبيعي لدى الإنسان، الطبيعي وغير المؤدلج، وهو حب الحياة وتقديسها، إذ غاية الحياة هي الحياة لا الموت، ولا يُمكن للموت، ولا بأي شكل، أن يكون منتصراً. يموت الإنسان في سبيل حريته والدفاع عن آرائه وحرية تعبيره، فلا معنى لحياةٍ من دون حرية، وهذا حال لا يمتُ بصلة إلى موت مئات، بل آلاف، الشبان السوريين الذين يُزجون في معركةٍ لم يختاروها، والذين لم يستطيعوا الفرار، كما فعل مئات الآلاف من الشبان السوريين، الهاربين من الموت المُحتم.
ثقافة الإعلاء من قيمة الموت وتقديسه وإعتباره نصراً وعرساً وغاية للحياة هي أكبر تزوير لحقيقة الحياة، ورغبة كل إنسان أن يعيش ويُحب ويستمتع بأعظم متعةٍ هي عيش الحياة، لكن الإعلام السوري، ومن تأثروا وتبنوا أفكاره، يعتبرون الموت انتصاراً، بل واجب كل شاب، فكم مرة شهدنا سيارات ضخمة تقف أمام مقاهي رصيفٍ، ويهبط منها عناصر من الأمن أو الجيش، ليجمعوا أكبر قدر من الشبان المساكين، وهم في مقاهي الرصيف، ليزجّوهم في معركةٍ لا يريدونها. كم من وابلٍ من الرصاص الاحتفالي، تشهده سماء سورية عشرات المرات يومياً ابتهاجاً بتشييع شاب سوري، مات وتحول إلى شهيد بطل. كم من زخّ من الرصاص الاحتفالي تشهده سورية كل يوم، وهي تحتفل بعرس الشهادة الذي هو عرس الموت. وربما لو حسبنا الكلفة المادية للرصاص الاحتفالي، والذي يُستعمل في مناسباتٍ سياسيةٍ عديدةٍ، لكانت كافيةً لإنشاء محطة توليد كهرباء، تضيء سورية كلها، بدل ساعات التقنين الكهربائي الطويلة، والمبالغ الطائلة التي ابتلى بها السوريون لاضطرارهم إلى شراء مولدات كهرباء، أو لدات (شرائط كهربائية رفيعة تؤذي العيون).
كل شي يمكن تزويره ما عدا الحق، فالنفس البشرية مفطورةٌ عليه، ولا يمكن، ولا تحت أي ذريعة فكرية، أن نعتبر الشهيدة زوجة الشهيد وأم الشهداء الثلاثة علامة على حياة وطن. بل هي فضيحة مجلجلة لفشل عقل ومنطق معادٍ للحياة، لأن غاية الحياة هي الحياة الحرّة الكريمة الآمنة. ويستحيل أن يُبنى وطن على جثث أبنائه الذين تحوّلوا إلى أوراق نعي. ببساطةٍ، يطبل الإعلام السوري ويزمّر لثقافة الموت، ويجعل من الموت غاية الحياة.