31 أكتوبر 2024
كوابيس عمر وصلاح الدين
بعيدا عن تلال الأكاذيب التي تبثها منصّات التواصل الاجتماعي، وذبابه القذر، تتوقف هذه المقالة أمام إضاءتين شديدتي الأهمية، لتعديل مزاج الحقيقة التي تكاد أن تموت، تحت وطأة تغريداتٍ ناعقة بالخراب، والكذب، والتشويه، وغسل الأدمغة، وصناعة الأكاذيب. ومن مفارقات غريبة أن الإضاءتين مستلتان من فم العدو الذي برع الصغار في التغزّل به، وترويج أكاذيبه.
قرأت قبل زمن عن تيدي كوليك، الرئيس الأسبق لبلدية الاحتلال في مدينة القدس، وأحد أبرز قادة الحركة الصهيونية، ولم يكتسب مكانته الكبيرة في سلم القيادة الصهيونية بفضل جهوده في تهويد القدس فقط، ومسؤوليته عن مضاعفة مساحة المدينة عدة مرات منذ 1967 ببناء مزيد من الأحياء الاستيطانية، بل أيضًا لسجله الكبير في العمل الأمني والاستخباري، علاوة على أنه كان أوثق مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، ديفيد بن غوريون، لكن جانبًا هامًّا من تفكير كوليك، في السنوات القليلة قبل وفاته، وكان غائبًا عن الجمهور الإسرائيلي، كشف عنه صديقه رجل الأعمال يوسي أهارونوش الذي قال، في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية بالعبرية، إن كوليك أقبل، في السنوات الأخيرة، بعدما أنهى منصبه رئيسا للبلدية، على دراسة تاريخ المدينة، حيث إن أكثر ما أصابه بالفزع نجاح المسلمين في فتح المدينة وبقية فلسطين في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وتمكّن المسلمون من الحفاظ على المدينة قرونا طويلة.
وينوِّه أهارونوش إلى أن كوليك توقف مليًا عند حرص عمر على القدوم شخصيًّا لتسلم مفاتيح القدس، معتبرًا أن هذه الخطوة الذكية تجعل الأجيال المسلمة، حاليًّا وفي المستقبل، ملتزمة بالعمل على إعادة تحرير المدينة، وطرد الإسرائيليين منها، علاوة على أنها مثلت مصدرًا لأسلمة القضية الفلسطينية. ويضيف أهارونوش "تيدي الذي لم يكن من السهل أن يشعر بالإعجاب تجاه أي زعيم، مات وهو شديد الإعجاب بشخصية عمر بن الخطاب، وحرص على دراسة سيرته، وكان يعتبره رجل دولة، وصانع قرار من الطراز الذي قلَّما عرفه العالم على مر العصور". ويقول أهارونوش إن دراسة تاريخ المدينة المقدسة جعلت كوليك، قبل وفاته، أقلّ ثقةً بمستقبل المشروع الصهيوني.
أما الجنرال شلومو باوم، والذي يوصف بأنه أسطورة الجيش الإسرائيلي، فكان يعتبره بن
غوريون "مفخرة الدولة اليهودية"، وقال عنه إرئيل شارون: إنه "آلة حرب متحرّكة تتجسّد في جسم بشري". خدم 35 عامًا في الجيش، ورفض بإصرار الحصول على إجازة ولو ليوم. شارك في أكثر من ألف عملية عسكرية، معظمها خلف مواقع القوات العربية، اشتهر بتنفيذ مجزرة قبية في 1954 تحت إمرة شارون، علاوة على شهرته بالقسوة الشديدة في تعامله مع العرب الذين وقعوا في أسره، وكانت سيرته تدرس لطلاب المدارس، وتغنّى شعراء إسرائيليون كثيرون بـ "بطولاته".
وعندما حلت ذكرى وفاته، نشر الكاتب حاييم هنغبي مقالا في صحيفة معاريف، كتب فيه أنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم قرّر التعرف إليه، بعد تسريحه من الجيش، لمعرفة الدوافع وراء "معنوياته العالية، وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به". وعندما توجه إلى باوم في شقته، وجد إنساناً آخر غير الذي سمع عنه، وجد شخصاً قد تملّكه الخوف، واستولى عليه الهلع واستبدّ به القلق. ولمّا سأله عن سر دافعيته الكبيرة لقتال العرب، وحرمان نفسه في سبيل ذلك من الراحة عشرات السنين، فإذا بباوم يصمت هنيهة، ثم يقوم من مجلسه، ويُحضر ملفاً كبيراً يأخذ بتقليب صفحاته، ثم يقدّمه لهنغبي، ويسأل: هل سمعت عن الحروب الصليبية؟ هل سمعت عن معركة حطين؟ هل سمعت عن شخصٍ يدعى صلاح الدين؟ يكتب هنغبي: عندها قلت له مستنكراً: لكن العالم العربي الآن في أقصى مستويات الضعف في كل المجالات. يضحك باوم ساخراً، ويقول: كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين تماثل، من حيث موازين القوى، أوضاع العرب حالياً.
وكتب هنغبي إن باوم لم يفته أن يذكر أن الدويلات العربية في ذلك الوقت كانت تقوم "بدور كلاب حراسة للممالك الصليبية". أما عن سر قلقه، فيقول باوم إن أكثر ما أزعجه من دراسة تاريخ الحروب الصليبية قدرة صلاح الدين على بعث نهضة العرب من جديد، وتنظيم صفوف قواته، بعكس المنطق الذي تمليه موازين القوى العسكرية.. ويواصل باوم شرح مخاوفه، كما رواها هنغبي: منذ عشرين عاماً، وأنا أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين يحقّقون هذا النصر الأسطوري وفق منطق العقل والتحليل العسكري. وما جعلني أتعلق بالحرب هو حرصي على أن أقوم بكل شيء، من أجل عدم تهيئة الظروف لمولد صلاح الدين الأيوبي من جديد. إنني أعيش في خوف دائم على المشروع الصهيوني.
.. منذ سنوات، وكلما اشتدت عليّ وطأة الأحداث، أعود إلى هذين الحدثين، أقرأهما مرات ومرات، لعل فيهما ما يفتح كوّة من أمل، كلما ادلهمّ الخطب.. إنهم يحلمون بعمر وصلاح الدين، كأنهما كابوسان يخيّمان على احتفالاتهم بعلوهم وانتصارهم، كلما سجلوا هدفا جديدا في مرمانا.
قرأت قبل زمن عن تيدي كوليك، الرئيس الأسبق لبلدية الاحتلال في مدينة القدس، وأحد أبرز قادة الحركة الصهيونية، ولم يكتسب مكانته الكبيرة في سلم القيادة الصهيونية بفضل جهوده في تهويد القدس فقط، ومسؤوليته عن مضاعفة مساحة المدينة عدة مرات منذ 1967 ببناء مزيد من الأحياء الاستيطانية، بل أيضًا لسجله الكبير في العمل الأمني والاستخباري، علاوة على أنه كان أوثق مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، ديفيد بن غوريون، لكن جانبًا هامًّا من تفكير كوليك، في السنوات القليلة قبل وفاته، وكان غائبًا عن الجمهور الإسرائيلي، كشف عنه صديقه رجل الأعمال يوسي أهارونوش الذي قال، في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية بالعبرية، إن كوليك أقبل، في السنوات الأخيرة، بعدما أنهى منصبه رئيسا للبلدية، على دراسة تاريخ المدينة، حيث إن أكثر ما أصابه بالفزع نجاح المسلمين في فتح المدينة وبقية فلسطين في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وتمكّن المسلمون من الحفاظ على المدينة قرونا طويلة.
وينوِّه أهارونوش إلى أن كوليك توقف مليًا عند حرص عمر على القدوم شخصيًّا لتسلم مفاتيح القدس، معتبرًا أن هذه الخطوة الذكية تجعل الأجيال المسلمة، حاليًّا وفي المستقبل، ملتزمة بالعمل على إعادة تحرير المدينة، وطرد الإسرائيليين منها، علاوة على أنها مثلت مصدرًا لأسلمة القضية الفلسطينية. ويضيف أهارونوش "تيدي الذي لم يكن من السهل أن يشعر بالإعجاب تجاه أي زعيم، مات وهو شديد الإعجاب بشخصية عمر بن الخطاب، وحرص على دراسة سيرته، وكان يعتبره رجل دولة، وصانع قرار من الطراز الذي قلَّما عرفه العالم على مر العصور". ويقول أهارونوش إن دراسة تاريخ المدينة المقدسة جعلت كوليك، قبل وفاته، أقلّ ثقةً بمستقبل المشروع الصهيوني.
أما الجنرال شلومو باوم، والذي يوصف بأنه أسطورة الجيش الإسرائيلي، فكان يعتبره بن
وعندما حلت ذكرى وفاته، نشر الكاتب حاييم هنغبي مقالا في صحيفة معاريف، كتب فيه أنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم قرّر التعرف إليه، بعد تسريحه من الجيش، لمعرفة الدوافع وراء "معنوياته العالية، وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به". وعندما توجه إلى باوم في شقته، وجد إنساناً آخر غير الذي سمع عنه، وجد شخصاً قد تملّكه الخوف، واستولى عليه الهلع واستبدّ به القلق. ولمّا سأله عن سر دافعيته الكبيرة لقتال العرب، وحرمان نفسه في سبيل ذلك من الراحة عشرات السنين، فإذا بباوم يصمت هنيهة، ثم يقوم من مجلسه، ويُحضر ملفاً كبيراً يأخذ بتقليب صفحاته، ثم يقدّمه لهنغبي، ويسأل: هل سمعت عن الحروب الصليبية؟ هل سمعت عن معركة حطين؟ هل سمعت عن شخصٍ يدعى صلاح الدين؟ يكتب هنغبي: عندها قلت له مستنكراً: لكن العالم العربي الآن في أقصى مستويات الضعف في كل المجالات. يضحك باوم ساخراً، ويقول: كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين تماثل، من حيث موازين القوى، أوضاع العرب حالياً.
وكتب هنغبي إن باوم لم يفته أن يذكر أن الدويلات العربية في ذلك الوقت كانت تقوم "بدور كلاب حراسة للممالك الصليبية". أما عن سر قلقه، فيقول باوم إن أكثر ما أزعجه من دراسة تاريخ الحروب الصليبية قدرة صلاح الدين على بعث نهضة العرب من جديد، وتنظيم صفوف قواته، بعكس المنطق الذي تمليه موازين القوى العسكرية.. ويواصل باوم شرح مخاوفه، كما رواها هنغبي: منذ عشرين عاماً، وأنا أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين يحقّقون هذا النصر الأسطوري وفق منطق العقل والتحليل العسكري. وما جعلني أتعلق بالحرب هو حرصي على أن أقوم بكل شيء، من أجل عدم تهيئة الظروف لمولد صلاح الدين الأيوبي من جديد. إنني أعيش في خوف دائم على المشروع الصهيوني.
.. منذ سنوات، وكلما اشتدت عليّ وطأة الأحداث، أعود إلى هذين الحدثين، أقرأهما مرات ومرات، لعل فيهما ما يفتح كوّة من أمل، كلما ادلهمّ الخطب.. إنهم يحلمون بعمر وصلاح الدين، كأنهما كابوسان يخيّمان على احتفالاتهم بعلوهم وانتصارهم، كلما سجلوا هدفا جديدا في مرمانا.