كيف نقاوم التطبيع؟
مرّة أخرى، تهب رياح التطبيع مع الكيان الصهيوني على المنطقة العربية بقوة شديدة، تكاد توهم بعضهم بنجاحها، لشدّة اقترابها ممن هم الأبعد جغرافيا عن بؤرة القضية. ومرة أخرى، نكتشف أن التطبيع، سياسة ومفهوما، أبعد بكثير مما يروّج له ثقافيا، منذ اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر في 1978.
فشلت مواسم التطبيع دائما، وعلى الرغم من الاتفاقيات التي عقدت بين بعض الأنظمة السياسية العربية والكيان الصهيوني، في سبيل تكريس حالة من حالات المعايشة بين الطرفين، إلا أنها ظلت دائما حبرا على ورق، ولا تكاد تتعدّى مقرّات الحكم هنا أو هناك. وكان كل الضخ الإعلامي لها سرعان ما يتلاشى تحت وهج حقيقة كبيرة واحدة، أن الشعب العربي، كله، يرفض أن يطبّع علاقاته مع الكيان الصهيوني، قبل إيجاد حل حقيقي على الأقل للقضية الفلسطينية يضمن عودة الحق إلى أهله، وبما يرضي أهله. وعلى الرغم من ظهور أصوات نشاز في معزوفة الإجماع العربي الشعبي ضد التطبيع، إلا أنها بقيت دائما خارج دائرة التأثير، وانتهى بها الأمر إما بإعلان فشلها أو بنكوصها عن محاولاتها أو مواتها التام. ومع هذا، يبقى هاجس التطبيع حقيقيا، وخصوصا أن الكيان الصهيوني مصرٌّ عليه، باعتباره الطريق الوحيد إلى تغيير التوجه الأخلاقي العربي، والعالمي أيضا، ضده كيانا محتلا ومغتصبا لفلسطين. ذلك أن الصهاينة يعرفون تماما أن الشعوب، في النهاية، هي القوة الحقيقية في المعادلة، حتى وإن صودر حقها في الكلام وإبداء الرأي على الأقل، فلن يستكمل نظام ما شرعية مطمئنة، إن خالف توجهات الشعب في أمرٍ يمسّ ضميره الأخلاقي وعقيدته الدينية وكيانه القومي ومبادئه التاريخية.. وهو ما تنعقد عليه قضية فلسطين في قلب كل عربي ومسلم. ولهذا، فإن الرفض الشعبي للتطبيع، بأي شكل ممكن، واجبٌ لا ينبغي التنصل منه تحت أي ظرف وبأي حجة، فهناك دائما وسائل وطرق يمكن أن يختار المرء منها ما يستطيع إليها سبيلا، وفقا لمعطيات الواقع في بلده، فلا تتعامل كل الأنظمة العربية بالمسطرة نفسها مع قضية التطبيع.
المشكلة في كل موسم جديد من مواسم التطبيع، وتحسّسا للدور الفردي تجاه هذه القضية، نجد أن هناك سؤالا يردده كثيرون: ماذا نفعل؟ والسؤال بالتأكيد مستحق وحقيقي، ويطرح مشكلة كبيرة، وهي شعور المواطن العربي بالعجز تجاه ما يراه أمامه، ولا يستطيع أن يتدخل فيه. وعلى الرغم من أن هذا حقيقي، إلا أنه غير دقيق بالمطلق، فالتدخل هنا نسبي، والمرء يستطيع أن يتدخل قدر استطاعته وإمكاناته، ولكن كثيرين يفشلون في معرفة إمكاناتهم، وفي رصد قدراتهم في المساهمة بالتغيير. ليس السكوت حلا، والانغماس بشعور الخذلان والعجز غالبا لا يؤدّي إلى شيء. وبالتالي، علينا دائما البحث عن حلول وسط الممكن المتاح، وأولها تعزيز الإيمان بأحقية القضية وبضرورة مقاومة التطبيع، ومحاولة زرع ذلك الإيمان في نفوس الصغار قبل الكبار، فالإيمان بقضية ما يجعلنا دائمي التفكير بابتكار حلولٍ تصب في مصلحتها، والتطبيع فكرة ثقافية بالأساس، فالتطبيع بمعناه الثقافي أخطر منه بمعناه السياسي. ولحسن الحظ، مقاومته في معناه الأول والأخطر هي المقاومة الأسهل. المهم ألا نستسلم لليأس، ونتأكد أن كل كلمة نقولها أو نكتبها عبر أي منبر متاح يمكن أن تؤدّي الغرض، وتساهم في تعزيز فكرة مقاومة التطبيع. علينا أن نثق بذلك، وأن نجعل الكيان الصهيوني وأعوانه وشركاءه يثقون بذلك أيضا، ويتأكدون أن كل اتفاقياتهم لن تستطيع أن تعيد صياغة الوجدان العربي تجاه قضيتنا الأولى. ستتآكل هذه الاتفاقيات، وسينتهي موسم جديد بفشل جديد أيضا.