مع اقتراب كلّ دخول أدبي في فرنسا تُطرَح، بشكل منطقي، كثير من الأسئلة حول القراءة في فرنسا وطبيعة الكتب التي تجذب القراء وتُسيل لعاب ماكينة النشر والتوزيع في البلد. ثم ينطرح، بشكل عفوي، سؤال حول قيمة مُؤلّف ما، روائي، مثلا، في علاقة مع قرائه وعشاق كتابته وأسلوبه؟ قد يوجد من يحاول إقناعنا بأن الأدب الجادّ لا يجذب كثيرا من القُرّاء، وقد يستعرض نماذج من كتّاب فرنسيين مرموقين وموهوبين، لكنهم لا يبيعون كثيرا، كباسكال كينيارد وهنري ميشو وغيرهما.
إذن فنحن أمام مفارقة لا تخلو من دروس، فالأدب "الجادّ"، أو الحقيقي، الذي لا يحقق مبيعات كبرى في فرنسا، ليس هو الذي يُترْجم، بصفة أكبر، إلى لغات العالم، أي أن سفير فرنسا الثقافي إلى العالم ليس هو الأدب الرفيع. وللتأكد من الأمر ما على المرء سوى تناول الروايات الفرنسية التي فازت بإحدى الجوائز الأدبية الرفيعة في فرنسا، خاصة الغونكور، وهي أهم هذه الجوائز، وتتبّع صداها في الداخل وفي الخارج، من أجل معرفة مبيعاتها وتأثيرها.
إنّ الكتّاب الذين يحققون أعلى المبيعات في فرنسا، ومنذ قرابة عقدين من الزمن، يجب البحث عنهم على هامش الأدب الفرنسي، أي خارج "الغوتا" الباريسية، خارج صفحات النقد والقراءة في الصحف والمجلات الفرنسية، على الرغم من أن لديهم قرّاءً من كل الأجيال والأجناس والمستويات الاجتماعية.
وعلى رأس هؤلاء الذين يساهمون، بشكل كبير، في رواج الكتاب الفرنسي، وبالتالي في ازدهار سلسلة الكتاب، من المَطبعة، مرورا بالتوزيع والعرض، إلى القارئ، نجد مارك ليفي، الذي باع، لحدّ الآن، أكثر من 33 مليون نسخة وترجم إلى 49 لغة أجنبية. فقد بدأ ليفي نشر رواياته سنة 2000، ابتداءً بروايته الأولى: "وماذا لو كان حقيقة..." ثم تتالت الأعمال بعناوين في غاية البساطة: "أين أنت؟" و"سبعة أيام من أجل أبدية" و"المرة القادمة" و"رؤيتك من جديد" و"أطفال الحرية" و"اليوم الأول" و"الليلة الأولى" و"فكرة أخرى عن السعادة" و"هي وهو" و"الأفق معكوسا". كما نعثر، أيضا، على منافسه غيوم موسّو، الذي ابتدأ الكتابة في فترة متقاربة مع مارك ليفي، إذ صدرت له في سنة 2001 رواية "سكيدامارينك"، ثمّ تتالت الروايات بعناوين لا تقلّ بساطة عن زميله: " وبعد.."، و"أنقذني" و"هل ستكون هنا؟" و"لأني أحبك" و"سأعود للبحث عنك" و"من أكون من دونك؟" و"فتاة الورق" و"نداء الملاك" و"بعد سبع سنوات" و"غدا" و"سونترال بارك" و"اللحظة الحاضرة" و"فتاة بروكلين"...
وللتأكد من الأمر، يكفي ارتياد ميترو العاصمة أو الحافلات أو القطارات التي تنطلق من العاصمة أو تصل إليها، لمشاهدة مسافرين مستغرقين في قراءة روايات غيوم موسو ومارك ليفي وميشيل بوسّي وآنّا كافالدا وغيرهم.
صحيحٌ أن ثمة عوامل كثيرة تفسّر هذا الإقبال الجماهيري، على هذا النوع من الروايات، من
هذا دون أن نغفل الدور الذي يلعبه التنافس والتشويق بين رواد هذا النوع من الأدب الجماهيري. فالتنافس يكون على أشده، قبل صدور الأعمال الجديدة، التي يخضع ظهورها في المكتبات لتوقيت وتخطيط صارمَيْن، والطريف أنّ مجرد إفصاح الكاتب، غيوم موسو أو مارك ليفي، عن عنوان روايته الجديدة المنتظرة، يُعتبَرُ حدثا ثقافيا بامتياز.
ولأن السنة 2016 لم تنتَه بعدُ، حتى يتسنى لنا معرفة أدقّ بحصيلتها، فإنه يمكن أن نتأمل حصيلة 2015، من خلال العشر كتب الأكثر مبيعا، والتي تمثل نسبة الرُبُع فيما يتعلق بمبيعات الرواية الفرنسية في هذه السنة، حيث تربّع، كالعادة، الثنائي غيوم موسو (أكثر من مليون و750 ألف نسخة) ومارك ليفي (ما يقرب من مليون و100 ألف نسخة) على عرش المبيعات، وهما كاتبان لا يُعيرهما النقد الأدبي المهيمن أهمية كبيرة، يليهما ميشيل بُوسّي (مليون ونحو 30 ألف نسخة) وجيل ليغاردينيي(أكثر من 780 ألف نسخة)، وفْريدْ فارغاس، التي تعتبر رائدة الأدب البوليسي في فرنسا، منذ سنوات (أكثر من 700 ألف نسخة)، ومن بعيد، في القائمة، يمكن أن نعثر على بعض الروائيين الذين تنهمر عليهم علامات التقريظ في الصفحات الثقافية، بشكل مستمر، ومنذ سنوات، باعتبارهم ممثلين للأب "الجادّ"، ويتعلق الأمر بميشيل ويلبيك وجان-كريستوف روفين وديلفين دي فيغان.
ماذا عن الجوائز الأدبية، من غونكور ورونودو وميديسيس وجائزة الرواية الكبرى للأكاديمية الفرنسية وغيرها، وتأثيرها الحقيقي على المبيعات؟
ليس غريبا أن يتتبع المُلاحظ للجوّ الثقافي الفرنسي التنافس الشديد بين دور النشر الفرنسية ودور اللوبيّات في ترجيح هذا الكتاب أو ذاك، في الصراع الشديد على الجوائز، وهو ما يعني أن دور النشر تأمُلُ في انعكاس هذه الجوائز على مبيعاتها. ولكن هذه الجوائز، وعلى رأسها الغونكور، ليست دائما عاملا حاسما في تنصيب الفائزين بها في قائمة العشر الكتب الأكثر مبيعا. إذ أن كثيرا من هؤلاء الكتّاب الفائزين بالجائزة، ومن بينهم باسكال كينيارد وليدي سلفاير وماثياس إينار، لم يستطيعوا ولوج هذه القائمة. في حين أن ميشيل ويلبيك وجان- كريستوف روفين استطاعا تسجيل اسميهما فيها.
وبينما يتواصَل هذا الشرخ بين هذين النوعين من الأدب، الجادّ والجماهيري، يُواصل مارك ليفي وغيوم موسو وغيرهما من رواد هذا النوع الكتابيّ، حصدَ قرّاء جدد، خاصة في موسم الصيف والعطلة، وأيضا، وبشكل حماسي، أثناء التوقيع على الكتب، في المَعارض، وخاصة معرض باريس السنوي للكتاب. ولعل الكثيرين من المراهقين الفرنسيين الذين انتهوا، قبل أيام، فقط، من محنة الباكلوريا، التي حققت مستوى نجاح قياسي، لن يقفوا لا مبالين أمام صدور طبعة الجيب، الزهيدة الثمن، من رواية مارك ليفي "هي وهو"، والتي تظهرها الإعلانات الإشهارية في الميترو والمحطات.
في وجه من يُشهر في وجهه جائزة الغونكور، التي لن يَقبَلَ أعضاؤها، أبداً، ترشيح أعمال مارك ليفي لها، يجيب هذا الأخير، بذكاء: "قيمة الحبّ عندي أكبرُ من قيمة الغونكور"!