"المحظيّة" (2018) لليوناني يورغوس لانتيموس (1973)، دراما تاريخية عن صراع النفوذ في البلاط الإنكليزي في بداية القرن الـ18. أسلوبه تحفة في إدارة الممثل، وابتكار على مستوى الإضاءة وزاوية النظر (موقع الكاميرا).
بداية، يُكتشف جحيم البروتوكول الملكي. إلباس الملكة مثلاً، قبل كل ظهور رسمي، محنة. القناعة السائدة في البلاط كامنةٌ في أن الشعب يُطيع ولا يَحكم. صديقة الملكة هي التي تحكم إنكلترا، وتدبّر بمهارة مهاترات الأحزاب في مجلس العموم. البلد في حرب ضد فرنسا. الحكومة الليبرالية، التي ترفع الشعار الاقتصادي "دعه يعمل دعه يمرّ"، تضطرّ إلى فرض ضرائب جديدة، وهذا يُرعب حزب الأغنياء.
هناك دسائس في القصر. في البلاط الملكي، كلّ واحد يجلب قريبًا يعيّنه ويرقّيه سريعًا. صديقة الملكة جاءت بقريبتها، لكنها لم تتأخّر في اكتشاف أنّ "الأقارب عقارب". لكبح القريبة، تلجأ الصديقة إلى مزاح خطر بهدف الترهيب. مع مرور الوقت، استبدلت الملكة صديقتها بأخرى جديدة وشابّة. صارت الملكة رهينة صراعات صديقتيها المتنافستين على السيطرة وعلى السلطة. في صراعات البلاط، لا يحتفظ الصادقون بمكانتهم. هناك، يُعتَبر الولاء لشخص الملك أكثر مردودية من الولاء للوطن.
الصديقة قفّاز الملكة الذي استبدلته. هذا رفع منسوب الدراما. لا عالم خارجا عن البلاط، لكن أصداءه تصل إلى الداخل لتغذية التوتر. بعد مساومات وحفلات رقص تُبجّلها الأرستقراطية، تبدأ لقطات حبّ بطعم المهانة. يُكتشف كم يُذلّ جوع الجسد صاحبه. من الإيديولوجيات كلّها التي استعبدت الإنسان، تبدو إيديولوجيا الجسد أكثر وطأة. تحرّض الرفاهية المطلقة والجاذبية البصرية للشخصيات الثلاث هذا الجوع.
الفيلم قائم على إدارة الممثل. ثلاث نساء يتبادلن ابتسامات تخفي حقدًا مميتًا. الأولى هي الملكة آن (أوليفيا كولمان)، وصديقتها الأولى السيدة سارة (راشيل وايز)، والصديقة الثانية أبيغايل (إيما ستون). الأولى (كولمان) مرشّحة لجائزة "أوسكار" أفضل ممثلة، والأخريان (وايز وستون) مرشّحتان في فئة أفضل ممثلة ثانية، في النسخة الـ91 (24 فبراير/ شباط 2019).
اقــرأ أيضاً
ثلاث ممثلات كبيرات حملن الفيلم على أكتافهن. تتناوب على وجوههن ستة مشاعر: الدهشة والسعادة والحزن والغضب والاشمئزاز والخوف. كلّ ممثلة تعرف شخصيتها جيدًا، فتُعبِّر عنها بملامحها. أداء الممثلة يعكس تفسيرها للشخصية. رأسمالها جسدها. الممثلة تتحكم في انفعالاتها وتستجمع قوتها لتشعر بالحزن أو الحيرة بكثافة، وهذا تبعا لمتطلبات الدور، فتكشف أبعاد الحياة في البلاط.
تساءل المخرج البولندي زيمونتا هبنيرا: "كيف للمخرج أن يكون مخرجًا ومعرفته بلغة الجسد ضئيلة؟ هذه هي الوسيلة الأدق والأكثر مباشرة للوصول. وسيلة الاتصال مع الممثل". من جهته، نوّه المخرج الأسباني بيدرو ألمودوفار، بمُخرج يُدخِل يده في أحشاء الممثل ليستخرج منه ما يحتاج إليه. هذا ما فعله يورغوس لانتيموس، وهو مخرج لديه إحساس حاد بالمسْرحة، وتجري التراجيديا في دمه، ويعبّر عنها بعمق ومن غير خطابية. يستخدم "الانشطار المرآوي"، وهو حيلة سردية بصرية تلعب دور نبوءة شريرة. يتجلّى ذلك في لقطة قَنْص الحَمَام للتسلية، لكن الدم يسيل، ويرشّ الوجوه، وينذر بالآتي.
مع مرور الوقت، تآكلت قدرة الملكة على اختبار معدن خُدّامها، فتغرق في مأزقها ووحدتها، ويتجلّى ضجرها في نظراتها الشاردة. رغم الصراع الشرس بين البطلات الثلاث، يتعاطف المتفرج معهنّ. ساهم تموقع الكاميرا في هذا. بالنظر إلى شموخ الشخصيات، التي تبدو كأنها تطلّ على المتفرج، يفترض بالمخرج أن يضع الكاميرا على ارتفاع 80 سنتيمترًا، وهي كاميرا مائلة إلى أعلى، كي يبدو البلاط شامخًا. لا يُعقل أن تكون الكاميرا على علوّ قامة الإنسان العادي (160 سنتيمترًا)، فيبدو البلاط مألوفًا من موقع العين ـ الكاميرا. ساهمت الإضاءة التقليدية، المنبعثة من وسط اللقطة، في الإحالة إلى الماضي. إضاءة من داخل اللقطة بالشمع غالبًا. لذا، تبدو الملكة مع الشمعة أشبه بلوحة هنري فوزيلي، Lady Macbeth Somnambule، المستوحاة من مسرحية ويليام شكسبير. اقتبس الرسّامون مسرحيات شكسبير في لوحاتهم قبل اقتباس المخرجين لها في السينما. اختار لانتيموس هذه اللوحة، عندما صوَّر وجه الملكة آن مرعبًا ومصْفرًّا بضوء الشمع.
تذكّر هذه الإضاءة بـ"باري ليندون" (1975)، لستانلي كوبريك، الذي تجري وقائعه في القرن الـ18 أيضًا. يحاول ليندون تسلّق السلّم الاجتماعي. لا يكتفي المخرج بإضاءة تحيل إلى مرحلة. حتى الـ"كادر" انطباعيّ. فالمخرج، خصوصًا في اللقطات الخارجية، يظهر الأشياء صغيرة في مقدمة الـ"كادر" ليمنح مساحة كبيرة للأفق في خلفية اللقطة.
هذا فيلم يحتاج العالم إليه، فهو عن المحنة الوجودية للحكّام، الذين لديهم رغد العيش، لكن صراع الاحتفاظ بالسلطة يستنزف أرواحهم.
بداية، يُكتشف جحيم البروتوكول الملكي. إلباس الملكة مثلاً، قبل كل ظهور رسمي، محنة. القناعة السائدة في البلاط كامنةٌ في أن الشعب يُطيع ولا يَحكم. صديقة الملكة هي التي تحكم إنكلترا، وتدبّر بمهارة مهاترات الأحزاب في مجلس العموم. البلد في حرب ضد فرنسا. الحكومة الليبرالية، التي ترفع الشعار الاقتصادي "دعه يعمل دعه يمرّ"، تضطرّ إلى فرض ضرائب جديدة، وهذا يُرعب حزب الأغنياء.
هناك دسائس في القصر. في البلاط الملكي، كلّ واحد يجلب قريبًا يعيّنه ويرقّيه سريعًا. صديقة الملكة جاءت بقريبتها، لكنها لم تتأخّر في اكتشاف أنّ "الأقارب عقارب". لكبح القريبة، تلجأ الصديقة إلى مزاح خطر بهدف الترهيب. مع مرور الوقت، استبدلت الملكة صديقتها بأخرى جديدة وشابّة. صارت الملكة رهينة صراعات صديقتيها المتنافستين على السيطرة وعلى السلطة. في صراعات البلاط، لا يحتفظ الصادقون بمكانتهم. هناك، يُعتَبر الولاء لشخص الملك أكثر مردودية من الولاء للوطن.
الصديقة قفّاز الملكة الذي استبدلته. هذا رفع منسوب الدراما. لا عالم خارجا عن البلاط، لكن أصداءه تصل إلى الداخل لتغذية التوتر. بعد مساومات وحفلات رقص تُبجّلها الأرستقراطية، تبدأ لقطات حبّ بطعم المهانة. يُكتشف كم يُذلّ جوع الجسد صاحبه. من الإيديولوجيات كلّها التي استعبدت الإنسان، تبدو إيديولوجيا الجسد أكثر وطأة. تحرّض الرفاهية المطلقة والجاذبية البصرية للشخصيات الثلاث هذا الجوع.
الفيلم قائم على إدارة الممثل. ثلاث نساء يتبادلن ابتسامات تخفي حقدًا مميتًا. الأولى هي الملكة آن (أوليفيا كولمان)، وصديقتها الأولى السيدة سارة (راشيل وايز)، والصديقة الثانية أبيغايل (إيما ستون). الأولى (كولمان) مرشّحة لجائزة "أوسكار" أفضل ممثلة، والأخريان (وايز وستون) مرشّحتان في فئة أفضل ممثلة ثانية، في النسخة الـ91 (24 فبراير/ شباط 2019).
ثلاث ممثلات كبيرات حملن الفيلم على أكتافهن. تتناوب على وجوههن ستة مشاعر: الدهشة والسعادة والحزن والغضب والاشمئزاز والخوف. كلّ ممثلة تعرف شخصيتها جيدًا، فتُعبِّر عنها بملامحها. أداء الممثلة يعكس تفسيرها للشخصية. رأسمالها جسدها. الممثلة تتحكم في انفعالاتها وتستجمع قوتها لتشعر بالحزن أو الحيرة بكثافة، وهذا تبعا لمتطلبات الدور، فتكشف أبعاد الحياة في البلاط.
تساءل المخرج البولندي زيمونتا هبنيرا: "كيف للمخرج أن يكون مخرجًا ومعرفته بلغة الجسد ضئيلة؟ هذه هي الوسيلة الأدق والأكثر مباشرة للوصول. وسيلة الاتصال مع الممثل". من جهته، نوّه المخرج الأسباني بيدرو ألمودوفار، بمُخرج يُدخِل يده في أحشاء الممثل ليستخرج منه ما يحتاج إليه. هذا ما فعله يورغوس لانتيموس، وهو مخرج لديه إحساس حاد بالمسْرحة، وتجري التراجيديا في دمه، ويعبّر عنها بعمق ومن غير خطابية. يستخدم "الانشطار المرآوي"، وهو حيلة سردية بصرية تلعب دور نبوءة شريرة. يتجلّى ذلك في لقطة قَنْص الحَمَام للتسلية، لكن الدم يسيل، ويرشّ الوجوه، وينذر بالآتي.
مع مرور الوقت، تآكلت قدرة الملكة على اختبار معدن خُدّامها، فتغرق في مأزقها ووحدتها، ويتجلّى ضجرها في نظراتها الشاردة. رغم الصراع الشرس بين البطلات الثلاث، يتعاطف المتفرج معهنّ. ساهم تموقع الكاميرا في هذا. بالنظر إلى شموخ الشخصيات، التي تبدو كأنها تطلّ على المتفرج، يفترض بالمخرج أن يضع الكاميرا على ارتفاع 80 سنتيمترًا، وهي كاميرا مائلة إلى أعلى، كي يبدو البلاط شامخًا. لا يُعقل أن تكون الكاميرا على علوّ قامة الإنسان العادي (160 سنتيمترًا)، فيبدو البلاط مألوفًا من موقع العين ـ الكاميرا. ساهمت الإضاءة التقليدية، المنبعثة من وسط اللقطة، في الإحالة إلى الماضي. إضاءة من داخل اللقطة بالشمع غالبًا. لذا، تبدو الملكة مع الشمعة أشبه بلوحة هنري فوزيلي، Lady Macbeth Somnambule، المستوحاة من مسرحية ويليام شكسبير. اقتبس الرسّامون مسرحيات شكسبير في لوحاتهم قبل اقتباس المخرجين لها في السينما. اختار لانتيموس هذه اللوحة، عندما صوَّر وجه الملكة آن مرعبًا ومصْفرًّا بضوء الشمع.
تذكّر هذه الإضاءة بـ"باري ليندون" (1975)، لستانلي كوبريك، الذي تجري وقائعه في القرن الـ18 أيضًا. يحاول ليندون تسلّق السلّم الاجتماعي. لا يكتفي المخرج بإضاءة تحيل إلى مرحلة. حتى الـ"كادر" انطباعيّ. فالمخرج، خصوصًا في اللقطات الخارجية، يظهر الأشياء صغيرة في مقدمة الـ"كادر" ليمنح مساحة كبيرة للأفق في خلفية اللقطة.
هذا فيلم يحتاج العالم إليه، فهو عن المحنة الوجودية للحكّام، الذين لديهم رغد العيش، لكن صراع الاحتفاظ بالسلطة يستنزف أرواحهم.