لا حل بلا ديمقراطية
تتزايد علامات انحلال الدول المشرقية في سورية والعراق، وبدرجة أَقل في لبنان والأردن، وتظهر بدائل لها من داخلها وخارجها، توحي بأن مصيرها كان مطروحاً على بساط البحث قبل انفجار ثوراتها، وأن هذه مسؤولة عن تهديد وجودها وتقويضه، وربما القضاء عليها، حسب ما تقوله نظمها الحاكمة.
لا مراء في أن الثورة كشفت ما كان يعتور هذه الدول من عيوب ونواقص، وما كمن في مجتمعاتها من تناقضات ومشكلات. ولا شك في أن ما كشفت الثورة عنه سابق لها، وأنها غير مسؤولة عنه، وإن كان فشلها في إيجاد حلولٍ له سيفضي إلى انهيارها. وبالتالي، إلى استمرار نظام الاستبداد القائم، وإن تغيّرت الوجوه والأيديولوجيا، وسيبقي على الواقع الراهن، بكل ما فيه من بلايا ومصائب، وإن تبدّلت أشكاله "العلمانية" بأشكال مذهبية ستفوقها سوءاً، على الرغم مما هي عليه من سوءٍ يتحدّى الخيال.
وكانت الثورة قد طرحت برنامجاً أرادت أن تتخطى، بمعونته، مشكلات وتناقضات تموضعت داخل الدولة والمجتمع، لخصته بمطلبين، عبّرت عنهما بكلمات قليلة، هي الحرية والدولة الديمقراطية، وهما هدفان جامعان، يصلحان لتوحيد كلمة وإرادة قطاعات واسعة جداً من المواطنات والمواطنين، أثبتا نجاعتهما في التجربة الكونية الحديثة، في الدولة الأوروبية، وما ينعم به مواطنوها من عدالة اجتماعية، وحرية شخصية وعامة، ومساواة وكرامة وحكم قانون، وقيم إنسانية مكّنتهم من التصدي لمآزق تاريخية، أنتجتها مشكلات قومية ودينية ومجتمعية، شديدة التعقيد، أشعلت حروباً أهلية وخارجية متعاقبة، غير أن الديمقراطية مكّنتها من تجاوزها، بما أحدثته من سياسات وثقافات، واعتمدته من أنماط مغايرة لإنتاج الوجود الاجتماعي والروحي، حتى أننا لا نجد، اليوم، أثراً يذكر لهذه المشكلات في حياتها العامة، أو في أشكال عيش مواطناتها ومواطنيها وتفكيرهم.
نجح الحل العسكري الذي طبقه النظام السوري في تحقيق هدفين رئيسين، رسمهما له هما: تحويل ثورة الحرية إلى اقتتال طائفي، وإنهاء سلمية الحراك المدني لصالح عسكرةٍ، آلت إلى عنفٍ أعمى لا ضوابط له. هذا النجاح نما الإرهاب الآتي من قاع المجتمع، رداً على إرهاب سلطوي شامل، وهمّش مطلب الحرية لصالح أهداف مذهبية، بينما احتل مطلب الدولة "الدينية" جزءاً متعاظماً من الحيز الذي كان لمطلب "الدولة الديمقراطية". بهذا الانزياح، التقت سياسات النظام والإرهابيين على قاسم مشترك أعظم، هو معاداة الشعب الذي طالب بالحرية، وقاتل في سبيل بلوغها باعتبارها مآل ثورته المنشود، بينما حوّلت طائفية النظام ومذهبية التنظيمات الثورة إلى عسكرةٍ متزايدة الشراسة، وربطا حسمها بالبندقية والصاروخ، وأخرجاه من أي سياق وطني، فكان من المحتم أن يكون شعب سورية، والمقاتلون من أجل حريته، ضحيته الرئيسة، وأن تتراكم الأخطاء، ويذهب التطور إلى عكس ما أراده الشعب الثائر.
لن تعرف سورية الأمن والسلام، إذا لم ينجح شعبها في قطع هذا التطور، وإقامة ميزان قوى ينجز بواسطته ثورة الحرية، بعد أن ذاق عذابات الاستبداد طوال قرن ونيّفٍ من الزمن، وأدرك، بالتجربة، أنه لن يخرج منه دون نظام حر وديمقراطي. ولن تبارح سورية موتها البطيء، إن بقي نضالها في سبيل الديمقراطية مطموراً تحت ركام صراعٍ مذهبي/ طائفي، بين النظام والتنظيمات الأصولية، أو تحت صراعاتٍ وتصفيةِ حساباتٍ دولية وإقليمية، تستخدم دماء السوريين من أجل حسم صراعاتٍ لا علاقة لهم بها، ولم تكن يوماً هدفاً لثورتهم، أو فرعاً منها، لكنهم يموتون بدلاً عن جنود الدول الأجنبية المنخرطة فيها، ولن ينقذها من الهلاك غير استمرار نضالها الشعبي/ الثوري، من أجل دولةٍ ديمقراطيةٍ، تصون حرياتهم، وتكفل لهم ما افتقروا إليه طوال نصقف القرن الماضي: العدالة والمساوة.
وللعلم، لن تكون إقامة هذه الدولة أمراً سهلاً، ليس فقط لأنها بديل مكروه دولياً وإسرائيلياً وعربياً لوضعهم الراهن، وإنما، أيضاً، بسبب تعقيداتٍ مرعبةٍ يرزح تحتها، أنتجتها حرب ضروس، شنها النظام الأسدي على شعب"ه" منذ قرابة أربعة أعوام، ما لبثت أن آزرته فيها تنظيمات إرهابية ومذهبية، متنوعة الأسماء والمشارب، فضلاً عن أنه لن يبقى هناك أي نظام على حاله في طول المنطقة وعرضها، وإلى ما وراء حدودها، إذا ما نجح السوريون وحققوا تلك الانعطافة المفصلية، ويرجح أن تكون بداية تاريخ جديد، إنساني وعقلاني، لكل من في مشرقنا ومغربنا من عرب وعجم!.
لم تعد الحرية والديمقراطية مجرد مسألةٍ بين مسائل سورية متنوعة. وتؤكد حال القتل والفوضى المتفاقمة أن سورية مهددة بالتلاشي في غيابهما، وأن تحقيقهما لم يعد مرتبطاً بنمط النظام السياسي الذي يريده شعب سورية، وإنما صار وجود هذا الشعب نفسه مرتبطاً بتحقيقهما، بعد أن بينت الأعوام المنصرمة أن المجازر المذهبية والطائفية هي بديلهما الوحيد، وأنها تطيح يومياً بوجوده!