"المشهد يبدو رائعًا كشجرة عيد ميلاد مزيّنة ومضيئة!".. هكذا وصف أحد مذيعي الـCNN بغداد تحت القصف في فجر السابع عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1991. على صعيد آخر، جلست رضوى عاشور تتابع مشاهد قصف الطائرات لبغداد، مشاهد القصف هذه فتحت بابًا للذاكرة، أخذت الصور تتوالى في عقلها: مشاهد القصف في سيناء ولبنان والمخيمات، وفجأة ظهرت أمامها صورة المرأة العارية التي دثّرها "أبو جعفر" بعباءته، تقول: "وأنا أتابع أخبار قصف العراق، رأيت المرأة العارية تقترب وكأنني أبو جعفر الورّاق في الرواية يشاهد في عريها موته. استبدّ بيّ الخوف وأنا أسأل: هل هو الموت الوشيك؟ وإنْ كان، فأي علاقة أديرها الآن مع موتي؟ ومع السؤال داهمتني غرناطة، فبدأتُ أقرأ".
وبما أن الكتابة نوع من المقاومة، اتخذت منها رضوى سلاحًا للدفاع عن النفس وللهروب المُلحّ من الهزيمة التي تلاحقها في كل مكان، وفي كل تفاصيل حياتها، لذلك كانت كتابة ثلاثية غرناطة ضربًا من ضروب الدفاع عن النفس الذي تلجأ إليه المخلوقات بشكل غريزي حين يداهمها الخطر. فالكتابة هنا "بدأت احتياجًا نفسيًا صرفًا، لا التزامًا بدور ولا طموحًا لإنجاز مشروع ثقافي يعتمد على إعادة إنتاج مرحلة من مراحل التاريخ العربي في شكل روائي". تقول باختصار: "كتبت غرناطة ومريمة والرحيل وأنا أحدّق في صورتي في الزمان يتهدّدها الموت".
تخبرنا في أحد كتبها عن رواية "ثلاثية غرناطة"، أنها تبحث وتكتب عن شيء ما لا تعرف ماهيّته بالتحديد، "كأنني راغبة في الفهم، أو كأنني أتشاغل عن همي بحكاية همٍ قديم يجاوب ما في القلب وإنْ خفّف عنه بإلهائه قليلا عن ذلك الذي ما عاد يطيقه".
وبما أنها مسكونة بالحكاية، وبالتاريخ والجغرافيا، نجدها تقرأ كتبًا في التاريخ، فتحت أمامها مساحات غائبة من حياة العرب الموريسكيين، رجال غلبهم الزمان، ولكنهم - رغم ذلك - ظلوا يغالبون زمانهم ويقاومون. كلما تبحّرت أكثر بالقراءة، تشكّلت أمامها ملامح تاريخ مقموع يحمل سؤال الانكسار والنهاية، وسؤال البحث عن الهوية وسؤال العلاقة بالآخر، والتهميش وقمع الحريات، تاريخ مُسقط في الغالب الأعمّ من الكتابات العربية، ما جعل رضوى تشعر بحاجتها للكتابة عن تلك الفترة، كتابة لا ترتبط بتاريخ القصور والحكام والأمراء والشخصيات التي يضج التاريخ بتفاصيلها.
كان الناس "العاديون" هم شغفها الدائم والأهمّ، بشر لم يتخذوا قرارات بحرب أو سلام، وإن وقعت عليهم مقصلة الزمان. وتوثّق التفاصيل الصغيرة علاقاتهم بالمكان والزمان، والسماء التي تهتز فوق رؤوسهم مع اهتزاز الأرض تحت أقدامهم، فيرفعونها من جديد.
ففي هذا النص سعت رضوى عاشور إلى قلب الهامش إلى متن، وحاولت سرد حكايات بشر لم يلتفت إليهم تاريخ ولا كتابة، فجلّ ما وصل إلينا من كتابات يحكي عن الأمراء والحكام والشخصيات البارزة في التاريخ.
قدمت في كل نص حكاية موثّقة بطريقة تلقائية لا تحتاج إلى كثير من الجهد والاجتهاد، فقد ساعدها البحث التاريخي والمشاهدة بالعينين - حيث زارت الأندلس مرتين - على التعرّف إلى ملامح حياة جماعة بشرية عاشت قبل ستمائة عام. كانت الوقائع التاريخية هي العنصر الرئيسي بين عناصر التوثيق التي وظّفتها في ثلاثية غرناطة، كما أضيف إليها التاريخ الاجتماعي والثقافي، وملامح الملبس، والمأكل، والمسكن، والحمَّام، والحكايات الشعبية، وعقد الزواج، ووثيقة الصلح بين أسرتين.. إلخ.
نسجت كل هذا من خلال تأريخ حياةٍ مُتخيَّلة لأسرة تنفعل وتتفاعل مع الأحداث. كان سؤال النهايات واضحًا وملحًا، يمليه العجز والخوف والوعي بتاريخ مهدّد. سؤال يلحّ كما تلحّ الكتابة التي تأتي دون سابق إنذار، فغرناطة دالّة على الغربة والفقد، تنشغل تفاصيل الحكاية بتقديم فعل المقاومة لجماعة بشرية، مقاومة جليلة وجميلة تركت علامتها الفارقة في الزمان. ربما يوضح هذا كله لماذا تنتهي الرواية بوصف قبر مريمة، فبعد سنوات من الكتابة تنتبه رضوى أن صورة القبر من الداخل تشبه مقابر وادي الملوك، حيث الحياة محفوظة في باطن الأرض، حياة في باطن الحياة، فلا وحشة في قبر مريمة، ولا نهاية للحكاية، فالحكاية التي تنتهي لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تُروى.
(مصر)
وبما أن الكتابة نوع من المقاومة، اتخذت منها رضوى سلاحًا للدفاع عن النفس وللهروب المُلحّ من الهزيمة التي تلاحقها في كل مكان، وفي كل تفاصيل حياتها، لذلك كانت كتابة ثلاثية غرناطة ضربًا من ضروب الدفاع عن النفس الذي تلجأ إليه المخلوقات بشكل غريزي حين يداهمها الخطر. فالكتابة هنا "بدأت احتياجًا نفسيًا صرفًا، لا التزامًا بدور ولا طموحًا لإنجاز مشروع ثقافي يعتمد على إعادة إنتاج مرحلة من مراحل التاريخ العربي في شكل روائي". تقول باختصار: "كتبت غرناطة ومريمة والرحيل وأنا أحدّق في صورتي في الزمان يتهدّدها الموت".
تخبرنا في أحد كتبها عن رواية "ثلاثية غرناطة"، أنها تبحث وتكتب عن شيء ما لا تعرف ماهيّته بالتحديد، "كأنني راغبة في الفهم، أو كأنني أتشاغل عن همي بحكاية همٍ قديم يجاوب ما في القلب وإنْ خفّف عنه بإلهائه قليلا عن ذلك الذي ما عاد يطيقه".
وبما أنها مسكونة بالحكاية، وبالتاريخ والجغرافيا، نجدها تقرأ كتبًا في التاريخ، فتحت أمامها مساحات غائبة من حياة العرب الموريسكيين، رجال غلبهم الزمان، ولكنهم - رغم ذلك - ظلوا يغالبون زمانهم ويقاومون. كلما تبحّرت أكثر بالقراءة، تشكّلت أمامها ملامح تاريخ مقموع يحمل سؤال الانكسار والنهاية، وسؤال البحث عن الهوية وسؤال العلاقة بالآخر، والتهميش وقمع الحريات، تاريخ مُسقط في الغالب الأعمّ من الكتابات العربية، ما جعل رضوى تشعر بحاجتها للكتابة عن تلك الفترة، كتابة لا ترتبط بتاريخ القصور والحكام والأمراء والشخصيات التي يضج التاريخ بتفاصيلها.
كان الناس "العاديون" هم شغفها الدائم والأهمّ، بشر لم يتخذوا قرارات بحرب أو سلام، وإن وقعت عليهم مقصلة الزمان. وتوثّق التفاصيل الصغيرة علاقاتهم بالمكان والزمان، والسماء التي تهتز فوق رؤوسهم مع اهتزاز الأرض تحت أقدامهم، فيرفعونها من جديد.
ففي هذا النص سعت رضوى عاشور إلى قلب الهامش إلى متن، وحاولت سرد حكايات بشر لم يلتفت إليهم تاريخ ولا كتابة، فجلّ ما وصل إلينا من كتابات يحكي عن الأمراء والحكام والشخصيات البارزة في التاريخ.
قدمت في كل نص حكاية موثّقة بطريقة تلقائية لا تحتاج إلى كثير من الجهد والاجتهاد، فقد ساعدها البحث التاريخي والمشاهدة بالعينين - حيث زارت الأندلس مرتين - على التعرّف إلى ملامح حياة جماعة بشرية عاشت قبل ستمائة عام. كانت الوقائع التاريخية هي العنصر الرئيسي بين عناصر التوثيق التي وظّفتها في ثلاثية غرناطة، كما أضيف إليها التاريخ الاجتماعي والثقافي، وملامح الملبس، والمأكل، والمسكن، والحمَّام، والحكايات الشعبية، وعقد الزواج، ووثيقة الصلح بين أسرتين.. إلخ.
نسجت كل هذا من خلال تأريخ حياةٍ مُتخيَّلة لأسرة تنفعل وتتفاعل مع الأحداث. كان سؤال النهايات واضحًا وملحًا، يمليه العجز والخوف والوعي بتاريخ مهدّد. سؤال يلحّ كما تلحّ الكتابة التي تأتي دون سابق إنذار، فغرناطة دالّة على الغربة والفقد، تنشغل تفاصيل الحكاية بتقديم فعل المقاومة لجماعة بشرية، مقاومة جليلة وجميلة تركت علامتها الفارقة في الزمان. ربما يوضح هذا كله لماذا تنتهي الرواية بوصف قبر مريمة، فبعد سنوات من الكتابة تنتبه رضوى أن صورة القبر من الداخل تشبه مقابر وادي الملوك، حيث الحياة محفوظة في باطن الأرض، حياة في باطن الحياة، فلا وحشة في قبر مريمة، ولا نهاية للحكاية، فالحكاية التي تنتهي لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تُروى.
(مصر)