لم يعد البطريرك الماروني، بشارة الراعي، يجد أيَ مانع للقول "إنهم يريدون مؤتمراً تأسيسياً لتغيير الكيان اللبناني ويريدون المثالثة، لكن نحن نرفض". الراعي "بقّ البحصة"، بحسب ما قال، متّهماً الشركاء في الوطن بمحاولة تغيير النظام والانقلاب على المناصفة. رجل الكنيسة الأول يتّهم المعنيين المسلمين، بمحاولة الانقلاب على الصيغة الدستوريّة القائمة منذ اتفاق الطائف (1990).
وبغضّ النظر عن كون حزب الله هو المستهدف الأول من هذا الاتهام، لسعي الطائفة الشيعيّة إلى تحصيل قوّتها وسلطتها داخل النظام السياسي، إلا أنّ في كلام الراعي تكريساً لمدى الأزمة التي وقع فيها مسيحيو لبنان. تبدأ هذه الأزمة، حديثاً، من الشغور المستمر في رئاسة الجمهورية (المنصب المسيحي الأول)، منذ 25 مايو/أيار الماضي. وقد مضى 161 يوماً على الشغور، لأسباب إقليمية وعرقلة داخليّة و"مؤامرة كونيّة"، لطالما ترافق الملفات اللبنانيّة الشائكة. وعلى الرغم من كلّ هذه العوامل الفعليّة للشغور، لم تنجز القوى المسيحية، بالحدّ الأدنى، فرضها السياسي وواجبها تجاه التمثيل المسيحي ومصالح مجتمعها.
عجزت هذه الأحزاب وسياسيوها، عن الاتّفاق بالحدّ الأدنى، على اسم جامع في ما بينها على الأقلّ، لتقديمه على الساحة اللبنانية. فالزعامات المسيحيّة جميعها طامحة ومرشّحة للرئاسة. الرئيس السابق أمين الجميل، النائب ميشال عون، الوزير السابق سليمان فرنجية ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، "مرشحون طبيعيون" لرئاسة الجمهورية. حتّى الحلفاء عاجزون عن الاتفاق، فلا الجميّل وجعجع قادران على التفاهم ولا عون وفرنجية صابران على بعضهما.
فشل الزعماء المسيحيون في إدارة ملفات المسيحيين، وإذ بهم على أعتاب التمديد للمجلس النيابي، (جلسة البرلمان المقررة يوم الأربعاء المقبل)، يقعون أكثر في أفخاخ البحث عن الشعبيّة والشرعيّة. يرفض هذا الرباعي وما يمثّله في المجلس، التمديد ويعارض القانون المقترح لذلك. لكنّ سرعان ما تحوّلت معارضة التمديد إلى اعتراض لا أكثر، إذ سيشارك نواب كل من تكتل "التغيير والإصلاح" (برئاسة عون) وكتلة القوات اللبنانية (جعجع) وكتلة الكتائب (الجميّل)، في جلسة الأربعاء المقبل، ليعبّروا عن اعتراضهم على التمديد لا معارضته. لن يقاطعوا الجلسة ولن يصوّتوا بالرفض بل سيمتنعون عن التصويت، أي تسجيل مواقف سياسيّة للتذكير بها في زمن انتخابي، لا بدّ أن يأتي بعد سنتين وسبعة أشهر (مهلة تمديد ولاية المجلس الحالي).
الظروف الصعبة
تتعمّق أزمة المسيحيين أكثر في الداخل اللبناني، بينما المشهد الإقليمي لا يبدو أكثر إيجابيةً أو هدوءاً. يعيش المسيحيون اليوم على وقع تهجير المسيحيين في العراق وسورية، ولغة التشدّد التي تحاكي المجتمعات العربيّة والإسلاميّة. في لبنان، هم بين سلاح حزب الله وطموحات بعض المجموعات المتشدّدة في التطوّر والإمساك بالمناطق والأحياء وإقامة المربّعات الأمنيّة. وينعكس كل هذا، سياسياً، في تعطيل نصاب جلسات انتخاب رئاسة الجمهورية من جهة، وتمرير التمديد للمجلس النيابي من جهة أخرى. فإذا كان كلّ اللبنانيين يفقدون الحسّ بالأمن مع تقدّم الأزمة في سورية، يشعر المسيحيون أيضاً بأنّ دورهم السياسي ينتهي شيئاً فشيئاً، وأنّ تمثيلهم وصلاحياتهم الدستوريّة في خطر داهم. أما أبناء الطوائف الأخرى، فيُمسك جزء منهم بالأمن وقادر على التعطيل ويستمدّ الآخر قوّته من امتداده العربي وزعاماته.
أمام هذا الواقع، يستمرّ الفشل في رأس الهرم المسيحي، كأنّ لا شيء جدياً يدعو إلى الحيطة والتنبّه. أما رأس الكنيسة المتمثّل بالبطريرك الراعي، فلا يزال يعيش على موجات متضاربة: يدعم الراعي التمديد لدى لقائه رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري في روما، ثم يعود ويرفضه عند مغادرته بيروت إلى أستراليا. فتتغيّر مواقفه بحسب أهواء المطارات التي يحطّ قيها، أو بفعل تبدّل الطقس بين المدن والأبرشيات المارونيّة المنتشرة في العالم.
ويبدو أنّ صلاحية القوى السياسيّة المسيحيّة اللبنانية قد انتهت. مرّ تاريخ التصنيع والتصدير والتسويق، وبات إبقاء هذه الأحزاب في أسواق المتن وجبيل وكسروان (الأقضية اللبنانية المحسوبة على المسيحيين) لا يساهم إلا في إفراغ الدور المسيحي وتعميق أزمته على المستويات كافة.