03 اغسطس 2022
لبنان بين الإفلاس .. والثورة
في مشهد يختصر مأساة وطن، وقف رئيس الحكومة اللبنانية، حسان دياب، داخل قاعة مقفلة، بعيدا عن وسائل الإعلام يعلن إفلاس الدولة اللبنانية! وقف أمام وزرائه الذين جلسوا في القاعة كتلاميذ المدرسة ينصتون إليه، وهو يقرأ بيان النعي الذي أعلن فيه تمنع لبنان عن دفع جزء من الديون المترتبة عليه على شكل سندات "يوروبوند" التي استحقت في 9 مارس/ آذار الجاري. إنها المرة الأولى في تاريخه التي يمتنع فيها لبنان عن الدفع، لتراكم العجز وتفاقمه، ولشح السيولة من العملة الأجنبية. نموذج اليونان أو الأرجنتين؟ إنه نموذج سلطة سياسية جشعة وفاسدة وفاجرة، نهبت البلد وقضت على ثرواته، وعقدت الصفقات والسمسرات، وهرّبت الأموال والودائع إلى الخارج بالتواطؤ مع أصحاب المصارف، وسنت قوانين خاصة بها، وما زالت في السلطة غير آبهة بغضب الشارع الذي انفجر منذ نحو خمسة أشهر. سلطة مستمرة بالنهب وتقاسم الحصص في ما بينها، والبلد غارق في العتمة منذ عشرات السنين، على الرغم مما خصص لمشاريع الكهرباء من أموال تقارب نصف مديونية الدولة (40 مليار دولار). أما القرار السياسي وخيارات لبنان وعلاقاته الخارجية فمتروكة لحزب الله الذي أخذ لبنان إلى عزلة عربية ودولية خانقة، تواطؤ تجلى في تنفيذ لمعادلة "الفساد مقابل السلاح"!
يختصر المشهد مأساة وطن. الكل يصمت الآن، إما لانفضاح أمره أو لعجزه. ومايسترو اللعبة
تراجع خطوتين إلى الوراء، ليستأنف إدارة الأمور من وراء الكواليس عبر حكومةٍ هزيلةٍ، قالوا إنها حكومة مكونة من مستقلين واختصاصيين، ليتبين، عند أول استحقاق، أنها لا مستقلة ولا وزراؤها أصحاب اختصاص، فهذا امتحان وباء كورونا يكشف جهل وزير الصحة المهني وتبعيته السياسية، إذ ما زالت الرحلات الجوية مستمرة من طهران إلى بيروت، علما أن كل الإصابات طاولت لبنانيين قادمين من إيران، وهذا رئيس الحكومة ينفذ ما يقوله حزب الله برفض التعاون مع صندوق النقد الدولي، وبعدم دفع الديون المترتبة على لبنان.
ثم يتحول المشهد إلى مهزلة. الكلام الديماغوجي والشعبوي شيء، والكلام الواقعي والمسؤول شيء آخر، ناهيك عن خرافة الكلام الدونكيشوتي الذي يعتبر التمنع عن الدفع بمثابة هزيمة لأخطبوط المؤسسات المالية الدولية وللاقتصاد الحر! بالنسبة للدول المدينة، لا يوجد شيء اسمه عدم الدفع أو تحدي الدول الدائنة أو المؤسسات المانحة، لأن هذا يعني عمليا مواجهة خطر الحجز على ممتلكات الدولة في الخارج، مثل مقرات السفارات اللبنانية أو على مرافق حيوية مثل طائرات الخطوط الجوية اللبنانية أو أموال بعض البنوك، وكلها إجراءات موجعة. ولكن هناك طبعا إمكانية لإعادة هيكلة الدين وجدولته، وهذا ما يمكن التفاوض حوله، والذي بدأته عمليا الحكومة من تحت الطاولة مع الدول والمؤسسات الدائنة في مقابل ضمانات على لبنان أن يقدمها ليحصل على تمديد للمهل. ضمانات من غير السهل
توفرها، لانعدام الثقة بالسلطة السياسية، تبدأ بإجراءات تقشّفية فورية لتخفيض العجز، ولا تنتهي بخطوات إصلاحية بنيوية جذرية، تتناول إعادة تنظيم قطاع الكهرباء وقطاع الاتصالات، ووقف الهدر والتهريب في المرافق العامة البحرية والبرية، وعبر المعابر غير الشرعية (يسيطر عليها حزب الله). ومثل هذه الخطة يمكن أن يضعها صندوق النقد الدولي الذي جاء وفد منه إلى بيروت، ليقدّم مشورته للحكومة اللبنانية، ولكنه اضطر إلى المغادرة، بعد أن أعلن حزب الله معارضته التعاون معه. وهو غادر بالمناسبة مفاجأً بقلة كفاءة وزراء "التكنوقراط" وقلة مصداقيتهم.
أما الخيار الآخر فهو محاولة الحصول مجددا على دعم مالي من الدول العربية الخليجية، ومن الدول الصديقة المانحة التي كانت قد خصصت 12 مليار دولار للبنان في مؤتمر "سيدر" في باريس في إبريل/ نيسان 2018، ولاحقا جمدت هذه الأموال لعدم التزام لبنان بما طلب منه من إصلاحات هيكلية ضرورية لاقتصاده ومؤسساته. وكان هذا المؤتمر الرابع من نوعه منذ عقدين، بعد المؤتمرات التي سعى إليها رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، "باريس - 1" الذي عقد في بداية عام 2001 وخصص 500 مليون يورو، ثم "باريس - 2" في نهاية عام 2002 الذي خصص 500 مليون يورو إضافية، وبعده "باريس - 3" الذي عقد في بداية 2007 بمسعى من رئيس الحكومة السابق، فؤاد السنيورة. وقد ظلت معظم القرارات والإجراءات التي اتخذت حبرا على ورق، نظرا لمعارضة نظام الوصاية السورية، وعرقلته إنجازات الحريري وخططه، أما المؤتمر الثالث فقد نسفه حزب الله باحتلاله يومها وسط بيروت، مدعوما من التيار العوني. ولكن لبنان لم يتخلف يوما عن الدفع. أما الدول الخليجية، وكذلك الولايات المتحدة، فقد أحجمت عن أي دعم، لأنها لم تعد مستعدة لتغطية حكومات السنوات الأخيرة التي يسيطر على قرارها وسياساتها حزب الله، ويسانده رئيس الجمهورية الذي أكد، في أكثر من مناسبة، أن لبنان بحاجة إلى سلاح حزب الله، لأن الجيش اللبناني ما يزال
غير قادر على الدفاع عن لبنان. وكانت هذه الحكومات، برئاسة سعد الحريري الذي قايض المشاريع والصفقات بالسكوت على سلاح حزب الله. أما الولايات المتحدة فضغطها مزدوج سياسي ومالي: تصعد من العقوبات على حزب الله، وتضغط على الدول المانحة كي لا تفرج عن المساعدات التي هي شريك فيها.
الخيار هو إذا بين اثنين، أحلاهما مر: إما القبول بخطة صندوق النقد الدولي، ووصفته الموجعة من زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وزيادة سعر صفيحة البنزين، ورفع الدعم عن المحروقات و"تنحيف" القطاع العام المحشو بالموظفين (قبل الانتخابات البرلمانية عام 2018 تم توظيف أكثر من خمسة آلاف شخص تقاسما بين أحزاب السلطة) وغيرها من الإجراءات. أما الحصول على مساعدات، فالشروط تصبح سياسية وشبه مستحيلة، لأنها تعني إبعاد من بيده القرار السياسي، فهل يمكن أن يبادر حزب الله إلى تسليم سلاحه، أو أقله الانسحاب من الميدان السوري، والانكفاء داخليا، وانتهاج سياسة الحياد إقليميا، فيما تردّد أن الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، بات هو المولج بملف العراق بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني؟ وهل في المقابل هناك من هو مستعد لإرجاع لبنان إلى الصف العربي، وإصلاح ذات البين مع الدول العربية؟ وهل من يعيد السيادة إلى هذا البلد؟
وكذلك الإصلاحات الضرورية المطلوبة، وخصوصا ملفات الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، فهي تعني محاسبة المسؤولين أنفسهم، فهل سيقبل نبيه بري وجبران باسيل ووليد جنبلاط وسعد الحريري أن يُحاسبوا؟ ومن بإمكانه أن يحاسبهم؟ الحكومة التي عينوا رئيسها وسموا فيها مستشاريهم وأتباعهم وزراء؟ إنقاذ البلد من الانهيار يبدأ بالإصلاح، والإصلاح الجدي يساوي أقله محاسبة السلطة السياسية الحالية! ليس القرار إذا عند رئيس الحكومة. هو مجرد واجهة ومتراس يتحصّن وراءه حزب الله وحركة أمل والتيار العوني، الذين ينتمي إليهم معظم وزرائه، لصد ضغط الشارع القوي الذي عاد وانفجر مع إعلان حسّان دياب إفلاس الدولة. وغدا عندما يبدأ تطبيق الإجراءات التقشفية التي أعلن عنها من رسوم وضرائب جديدة، وعندما تعجز المصارف عن تسديد أموال المودعين، أو على الأقل تلبية حاجاتهم بالحد الأدنى في سيناريو هو أسوأ مما حصل في اليونان (100 دولار كل أسبوعين!)، هل سيتمكّن دياب من الصمود أمام الشارع؟ هناك من يؤكد أن أموال المودعين قد تبخرت بالكامل! المشكلة أن لا يكون دياب يعتبر نفسه هو المنقذ، أما إذا كان اكتفى بالحصول على لقب دولة الرئيس، ويتحين بالتالي الفرصة للإنسحاب، ولكن بعد أن يكون قد فات الأوان.. المنطقي والمؤسف، في الوقت عينه، إنه للخروج من هذا النفق لم يبق إلا الشارع الذي كفر بكل الطبقة السياسية وبأحزابها وطوائفها وفسادها وتبعيتها.
ثم يتحول المشهد إلى مهزلة. الكلام الديماغوجي والشعبوي شيء، والكلام الواقعي والمسؤول شيء آخر، ناهيك عن خرافة الكلام الدونكيشوتي الذي يعتبر التمنع عن الدفع بمثابة هزيمة لأخطبوط المؤسسات المالية الدولية وللاقتصاد الحر! بالنسبة للدول المدينة، لا يوجد شيء اسمه عدم الدفع أو تحدي الدول الدائنة أو المؤسسات المانحة، لأن هذا يعني عمليا مواجهة خطر الحجز على ممتلكات الدولة في الخارج، مثل مقرات السفارات اللبنانية أو على مرافق حيوية مثل طائرات الخطوط الجوية اللبنانية أو أموال بعض البنوك، وكلها إجراءات موجعة. ولكن هناك طبعا إمكانية لإعادة هيكلة الدين وجدولته، وهذا ما يمكن التفاوض حوله، والذي بدأته عمليا الحكومة من تحت الطاولة مع الدول والمؤسسات الدائنة في مقابل ضمانات على لبنان أن يقدمها ليحصل على تمديد للمهل. ضمانات من غير السهل
أما الخيار الآخر فهو محاولة الحصول مجددا على دعم مالي من الدول العربية الخليجية، ومن الدول الصديقة المانحة التي كانت قد خصصت 12 مليار دولار للبنان في مؤتمر "سيدر" في باريس في إبريل/ نيسان 2018، ولاحقا جمدت هذه الأموال لعدم التزام لبنان بما طلب منه من إصلاحات هيكلية ضرورية لاقتصاده ومؤسساته. وكان هذا المؤتمر الرابع من نوعه منذ عقدين، بعد المؤتمرات التي سعى إليها رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، "باريس - 1" الذي عقد في بداية عام 2001 وخصص 500 مليون يورو، ثم "باريس - 2" في نهاية عام 2002 الذي خصص 500 مليون يورو إضافية، وبعده "باريس - 3" الذي عقد في بداية 2007 بمسعى من رئيس الحكومة السابق، فؤاد السنيورة. وقد ظلت معظم القرارات والإجراءات التي اتخذت حبرا على ورق، نظرا لمعارضة نظام الوصاية السورية، وعرقلته إنجازات الحريري وخططه، أما المؤتمر الثالث فقد نسفه حزب الله باحتلاله يومها وسط بيروت، مدعوما من التيار العوني. ولكن لبنان لم يتخلف يوما عن الدفع. أما الدول الخليجية، وكذلك الولايات المتحدة، فقد أحجمت عن أي دعم، لأنها لم تعد مستعدة لتغطية حكومات السنوات الأخيرة التي يسيطر على قرارها وسياساتها حزب الله، ويسانده رئيس الجمهورية الذي أكد، في أكثر من مناسبة، أن لبنان بحاجة إلى سلاح حزب الله، لأن الجيش اللبناني ما يزال
الخيار هو إذا بين اثنين، أحلاهما مر: إما القبول بخطة صندوق النقد الدولي، ووصفته الموجعة من زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وزيادة سعر صفيحة البنزين، ورفع الدعم عن المحروقات و"تنحيف" القطاع العام المحشو بالموظفين (قبل الانتخابات البرلمانية عام 2018 تم توظيف أكثر من خمسة آلاف شخص تقاسما بين أحزاب السلطة) وغيرها من الإجراءات. أما الحصول على مساعدات، فالشروط تصبح سياسية وشبه مستحيلة، لأنها تعني إبعاد من بيده القرار السياسي، فهل يمكن أن يبادر حزب الله إلى تسليم سلاحه، أو أقله الانسحاب من الميدان السوري، والانكفاء داخليا، وانتهاج سياسة الحياد إقليميا، فيما تردّد أن الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، بات هو المولج بملف العراق بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني؟ وهل في المقابل هناك من هو مستعد لإرجاع لبنان إلى الصف العربي، وإصلاح ذات البين مع الدول العربية؟ وهل من يعيد السيادة إلى هذا البلد؟
وكذلك الإصلاحات الضرورية المطلوبة، وخصوصا ملفات الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، فهي تعني محاسبة المسؤولين أنفسهم، فهل سيقبل نبيه بري وجبران باسيل ووليد جنبلاط وسعد الحريري أن يُحاسبوا؟ ومن بإمكانه أن يحاسبهم؟ الحكومة التي عينوا رئيسها وسموا فيها مستشاريهم وأتباعهم وزراء؟ إنقاذ البلد من الانهيار يبدأ بالإصلاح، والإصلاح الجدي يساوي أقله محاسبة السلطة السياسية الحالية! ليس القرار إذا عند رئيس الحكومة. هو مجرد واجهة ومتراس يتحصّن وراءه حزب الله وحركة أمل والتيار العوني، الذين ينتمي إليهم معظم وزرائه، لصد ضغط الشارع القوي الذي عاد وانفجر مع إعلان حسّان دياب إفلاس الدولة. وغدا عندما يبدأ تطبيق الإجراءات التقشفية التي أعلن عنها من رسوم وضرائب جديدة، وعندما تعجز المصارف عن تسديد أموال المودعين، أو على الأقل تلبية حاجاتهم بالحد الأدنى في سيناريو هو أسوأ مما حصل في اليونان (100 دولار كل أسبوعين!)، هل سيتمكّن دياب من الصمود أمام الشارع؟ هناك من يؤكد أن أموال المودعين قد تبخرت بالكامل! المشكلة أن لا يكون دياب يعتبر نفسه هو المنقذ، أما إذا كان اكتفى بالحصول على لقب دولة الرئيس، ويتحين بالتالي الفرصة للإنسحاب، ولكن بعد أن يكون قد فات الأوان.. المنطقي والمؤسف، في الوقت عينه، إنه للخروج من هذا النفق لم يبق إلا الشارع الذي كفر بكل الطبقة السياسية وبأحزابها وطوائفها وفسادها وتبعيتها.