اختلفت أدوات البحث والتجريب بين الشعر والخط، إذ استفاد الأخير من اقترابه من اللوحة المعاصرة في تكوينها وأسلوبيتها وتقنياتها المستخدمة، ولم يعد يمكن التعامل مع ما تنتجه أسماء عربية مثل نجا المهداوي ومنير الشعراني وحسان مسعودي إلا باعتبارها عملاً فنياً.
التطوّر في هذا الاتجاه فرض تساؤلات جديدة حول الكاليغرافيا العربية التي أصبح الحرف فيها عنصراً من عناصر اللوحة لكنه لم يعد مركزياً في العديد من النماذج الراهنة، وربما يبدو التنظير حولها مربكاً إلى حد ما ولم يستوعب بعد انفتاحها وتشابكها المتسارع مع الفنون البصرية.
في أعمال الفنان والخطاط الفرنسي التونسي لسعد مطوي (1963) تتنوّع الرؤى والخلفيات التي تشكّلها، حيث تحضر العلاقات الهندسية بين الحروف وتناظرها ومحاكاتها الطبيعة من شجر وأزهار، في استعادة لمدارس الخط التقليدية، كما يلجأ إلى التجريد في بعض اللوحات متأثراً بماتيس وبول كلي وسولاج، ويستحضر مناخات تعبيرية وسوريالية في أخرى.
"الريشة الثملة" عنوان معرضه الذي افتتح في "معهد العالم العربي" في باريس في الحادي عشر من الشهر الجاري، ويتواصل حتى الثلاثين من أيلول/ سبتمبر المقبل، ويضمّ 135 عملاً تعبّر عن محطّات أساسية حكمت تجربته التي بدأها في الثمانينيات.
ولد الفنان في مدينة قابس التونسية التي تخرّج من "معهد الفنون الجميلة" فيها، وهناك تعلّم الخط العربي بمدارسه الأبرز، البغدادي والفارسي والعثماني والمغربي، ثم انتقل إلى فرنسا حيث درس تاريخ الفن والخط اللاتيني، وبدأ عمله مدرّساً للحروفيات، ومصمّماً لأغلفة عشرات المجموعات الشعرية، قبل أن يتوّجه إلى دراسة الخطوط في الشرق الآسيوي الذي سينعكس لاحقاً في أعماله الأخيرة.
ينقسم المعرض إلى أربعة أقسام؛ "مغامرة الإيماء"، و"الشغف بجماليات الخط الكلاسيكي"، و"السفر في تكوين الأشكال"، و"العين تُصغي"، وهي تشير إلى بحثه في أكثر من مستوى؛ علاقة الكتابة العربية القديمة بالصورة باعتبارها وحدة تعبيرية، وارتباطه بالجسد من جانب وبالطبيعة من جانب آخر، وهو مبحث يقود إلى العلاقة بين الحرف والمقدّس، حيث الإنسان في سيره وتنقّله ورقصه هو تجسيد الامتثال للإله وتمثّل لوجوده، فأتى الخط تعبيراً عنها.
كما يختلف الحرف في العربية عن غيرها من اللغات، بحسب مطوي، لأنه شكل تعبيري عن وحدة الوجود عبر اتصال الجسد بالكون والمادة بالفكرة والحسّي بالغيبي، وفي حضور هذه الفكرة ثم في تفكيكها تتخلّق مساحات جديدة للعمل.